spot_img

ذات صلة

جمع

حين ابتلع البحر حلم عدّاءة الحارة الخامسة… عن هجرة سامية يوسف التي لم تكتمل

كانت تركض، لا لتسبق أحدًا، بل لتسبق واقعًا يطاردها:...

Trapped in the Web of “Fashion’s Spider”.. We Export Cotton to the West, Only to Wear Its Waste

We spend months planting, nurturing, and harvesting cotton, only...

خيمة في المنفى وحلم مؤجل بالعودة.. لاجئو السودان بأوغندا يرسمون ملامح “وطنهم البديل”

وبحسب الأرقام، فقد فر أكثر من 3 ملايين شخص من السودان منذ بداية الحرب قبل أكثر من 20 شهرًا، إلى دول مثل مصر وتشاد وجنوب السودان، وليبيا وحتى إفريقيا الوسطى وأوغندا. أما الذين بقوا في الداخل السوداني، فقد نزحوا إلى مناطق أخرى هربًا من مناطق الصراع.

بطل بلا سقف| سالم والكورنيش: حين تصبح الشوارع وطنًا للمنسيين

في زحمة الحياة على كورنيش النيل، يلتقي المارة بوجوه...

كيليان امبابي- نموذج نجاح فرنسي بطيف إفريقي

لم يستطع مقدم أخبار الثامنة على قناة TF1 الفرنسية إخفاء مشاعر الفرحة والفخر بضيفه اللاعب الأسمر الشاب صاحب 23 عاما، فبعد مقدمة أشاد فيها بمكانة كيليان إمبابي وشهرته في أنحاء المعمورة وعرض سريع لعدد المواطنين الفرنسيين بمختلف أعمارهم وألوانهم وهم يمتدحون مهارات اللاعب وشخصيته، سأل مقدم النشرة ضيفه عن الضجة المثارة حول مسألة انتقاله من النادي الباريسي باريس سان جيرمان إلى نادي ريال مدريد الإسباني:
– قال أحدهم إنه لا يمكن نقل برج إيفل من باريس إلى مدريد! هذا يعني أنك مَعلَم فرنسي، أي أنك تمثل ما هو فرنسي حتى النخاع.

– نعم، لأنني فرنسي…

كان الحوار مثيرا للاهتمام، برزت من خلاله شخصية لاعب شاب ذو كاريزما عالية. لكن البداية وحدها استوقفتني كثيرا: لأنني فرنسي عبارة بسيطة يقولها شاب فخور بانتمائه إلى فرنسا، الوطن الذي يتصل فيه الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، والرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، بلاعب كرة قدم كي يشجعانه على البقاء في النادي الوطني بدل الانتقال إلى الخارج.

قد يبدو بديهيا أن تبدو السعادة على ملامحه وهو يروي مثل تلك التفاصيل لملايين من المشاهدين الفرنسيين. ما ليس بديهيا أن تتأثر جماهير إفريقية بهذا اللاعب وتشعر بأنه رغم كونه فرنسيا فهو ينتمي إليها بشكل أو بآخر وبأنه إفريقي رغم أنف فرنسا. فما الذي ولّد هذا الشعور لدى الجماهير الإفريقية؟ وكيف أصبح كيليان امبابي مؤثرا إفريقيا من الدرجة الأولى؟

شعبية إمبابي وسط الجماهير الإفريقية جارفة، إذ أصبح اسمه متداولا كأحد أبرز نجوم كرة القدم، وصوره وفيديوهاته الحديثة والقديمة تملأ المواقع الإلكترونية وهواتف الملايين من الأفارقة، وباتت قصة حياته وتفاصيل عائلته وأصوله الإفريقية حديث العام والخاص، إذ يتنافس الصحافيون الكاميرونيون وغيرهم من الأفارقة على الحديث مع والد امبابي – كاميروني – وسؤاله عن ابنه النجم، ويثرثر الشارع الجزائري عن والدة إمبابي الجزائرية ودورها في مسار ابنها الكروي، مشيدا بقوة شخصيتها التي كانت السر في صناعة جوهرة كروية عالمية.تركيز المعجبين الأفارقة على التاريخ العائلي للاعب الفرنسي كيليان امبابي ليس سوى محاولة استرداد للثروات البشرية الإفريقية التي تعودّت فرنسا -حسب ما يعتقدونه- الاستيلاء عليها، وهو ما يميّز علاقة الأفارقة بامبابي عن علاقة أي معجبين بلاعبهم المفضل، فهي لا تستند فقط إلى المهارة وفنيّات اللاعب بل تتخلّلها تفاصيل تاريخية وسياسية تجعلها مليئة بمشاعر الحب والاحتضان والفخر وشيء من العصبية.

حين فازت فرنسا بكأس العالم 2018، انتشرت مقولة أن إفريقيا هي من فازت بالكأس باعتبار أن لون البشرة الداكن ميّز الغالبية الساحقة للاعبي المنتخب الفرنسي، وبين تهكم وفخر، أصبح الأفارقة ينسبون المجد الكروي الفرنسي إلى أبنائهم الذين انتزعتهم فرنسا من حضن “ماما آفريكا”. لكن المسألة تتجاوز لعبة كرة القدم والمستطيل الأخضر والجماهير المنتشية بتسجيل الأهداف إلى ما هو أعمق وأقدم تاريخيا وسياسيا واجتماعيا، ففرنسا التي غادرت القارة الافريقية بعد أن انتزعت الدول الإفريقية استقلالها، حملت معها أعباء تاريخ مثقل بشبح الذاكرة الإفريقية. ويبدو أن الدولة الفرنسية منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم لم تقم بما يجب القيام به كي تتجاوز ماضيها الاستعماري بل ربما زادت الطين بلّة بانتهاج سياسات داخلية وخارجية لم تعد على مجتمعها إلاّ بالانقسام والتعصّب وتدهور الحالة المادية والنفسية لشريحة هامة من الفرنسيين ذوي الأصول الإفريقية.

 

ما قد يبدو في الوهلة الأولى أنه مسألة فرنسية داخلية، غالبا ما يتحوّل إلى قضية جيوسياسية بين فرنسا والقارة السمراء، حتى لو تعلّق الأمر بمقابلة لكرة القدم

حدث ذلك في ملعب “ستاد دو فرانس” بباريس سنة 2001 بين المنتخب الفرنسي والمنتخب الجزائري، حيث لم يُكتب لتلك المباراة أن تنتهي بسبب غضب الجماهير الفرنسية ذات الأصول الجزائرية، ساعتها أُعيد طرح أزمة العلاقات الفرنسية الجزائرية علما أن من كان يشجع المنتحب الجزائري يومها في الملعب ويحمل الراية الجزائرية كان أيضا يحمل الهوية الفرنسية وجواز السفر الفرنسي!

في هذا الجو المجتمعي الذي يتم إلصاق فكرة الهزيمة والفشل والشغب والعنف وعدم احترام ثوابت وقيم الجمهورية الفرنسية، بالمواطن الفرنسي ذو الأصول الإفريقية، يخرج الشاب كيليان امبابي ابن الضاحية الباريسية “بوندي” كمعجزة كروية لفتت انتباه العالم. كيليان ابن المدرّب “ويلفريد امبابي” ذو الأصول الكاميرونية و”فايزة لعماري” ذات الأصول الجزائرية، المسؤولة عن العقود الإشهارية لابنها كيلان والتي صرّحت لجريدة “لوباريزيان” الفرنسية أن العائلة عانت من “متلازمة الفقير” وهو ما جعلها متخوّفة لمدة ثلاث سنوات من صرف الأموال الكثيرة التي كان كيلان يجنيها: ” كنت خائفة من أن يتمّ إيقاظي يوما ويُطلب مني إعادة الأموال.”
أجاب أحد المواطنين الفرنسيين من أصول أفريقية حين سُئل عن كيليان امبابي: “إن نضجه يدهشني، أجد أنه يتمتع بكاريزما عالية. مشاهدة كيليان امبابي تجعلني أفتخر بفرنسيتي”. إن عدم انفصال الفرنسيين ذوي الأصول الإفريقية عن ثقافتهم وتاريخهم وتجمعهم في الأحياء والضواحي التي باتت امتدادا لأوطان أجدادهم من حيث الرمزية، أحياء لا تنصاع إلى قوانين الجمهورية الفرنسية، حسب الخطاب اليميني الفرنسي، يخلق بينهم وبين أبناء قارّتهم شكلا من أشكال التضامن أو ربما تكاملا عاطفيا قد يكون ملاذا لنسيان الانكسارات والتهميش والواقع البائس الذي يعيشونه، فإفريقيا بالنسبة للفرنسيين المنحدرين منها هي أصل وجذر الهوية وفرنسا بالنسبة للأفارقة هي الحلم في مستقبل أكثر إشراقا، هذا التقاطع وهذه الوجهات المتعاكسة لكل من الطرفين يجعل من كيلان امبابي مثالا يحتذى به ليس فقط للفرنسين بمختلف ألوانهم ولكن كذلك لمن يرون في لون بشرته انعكاسا لهم ولنجاحه أملا في قدرة الإفريقي على تحقيق حلمه إذا ما توفرّت العناصر المساعدة على ذلك.
ما يميّز كيليان امبابي عن غيره من الفرنسيين ذوي الأصول الإفريقية هو نضج خطابه الهادئ وتوازنه النفسي في حواراته الإعلامية، وهو ما يتنافى مع الصورة النمطية لشباب الأحياء والضواحي الذين تعودوا الظهور على الشاشات الفرنسية: متمردون وأصحاب سوابق عدلية أو مشاكل قضائية، مغنَو الرّاب ممن يتحدثون لغة فرنسية ركيكة ويتلفظون بكلمات نابية، وآخرون ممن يعشقون دور ضحايا العنصرية وينسبون فشلهم إلى غياب العدل ومبدأ تكافؤ الفرص في فرنسا. على عكس كل هؤلاء يتمتع كيليان امبابي بالكثير من الرقي والتهذيب والوعي الذي يجعل منه ملهما لكل إفريقي طموح ومصدر إعجاب وتقدير الفرنسيين، فكيليان لم يجلب الأضواء لشخصه فقط بل باتت وسائل الإعلام تشيد بالتربية الجادّة التي تلقاها على يد والده ووالدته، وهو مازاد من فخر الأفارقة الذين باتوا يلقون الضوء أكثر فأكثر على ويلفريد وفايزة كما لو أنهم بحاجة لأن يثبتوا بأن الأفارقة هم أيضا قادرون على أن يجعلوا من أبنائهم أفرادا صالحين ونجوما لامعين تفتخر بهم أوطانهم.
ختم كيليان امبابي حواره التلفزيوني بمدى أهمية الطموح قائلا: “أجاهر بطموحي… قد لا أنجح بعدها، لكن هذا لن يجعل مني شخصا سيئّا، بل شخصا قد حاول على الأقل!” عبارة مليئة بالإيجابية وكفيلة بأن تبعث في نفوس الأفارقة إشعاعا من الأمل وإيمانا بالقدرة على التحقيق والإنجاز بعيدا عن المشاعر السلبية المتطرّفة التي أدخلتهم في دوّامة من التخبّط ولم تعد عليهم إلا بمزيد من الضّياع والانهزام أمام تعقيدات الحياة. لم يختر كيليان امبابي أن يكون مؤثرا إفريقيا، لكنه رغم ذلك بات نموذج نجاح فرنسي بطيف إفريقي.

spot_imgspot_img