تحت شجرة خضراء تتدلى أغصانها بين جوانبها، يجلس صالح عبده في مقهى تقليدي يتخذ من ظلها فضاء رحبا لاستقبال زبائنه من عشاق تناول البن في الهواء الطلق. وسط مجموعة من الشباب يطلب فنجانه المعتاد لتبدأ معه قصته المشوقة فور انتهائه من احتسائه.
في إحدى المرات، لاحظ عبده أن ما تدفق من قهوته على الطاولة أشبه بلوحة فنية إلى حد بعيد، سرعان ما وضع في مخيلته ترتيب هذه الأشكال المبعثرة من القهوة وتحويلها إلى لوحات حقيقية لكن هذه المرة على الورق.
موهبة صالح ليست بعيدة عن دراسته التي عشقها، إذ درس في كلية التربية قسم خطوط وتلوين بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وبعد 3 سنوات من العمل كمدرس تربية فنية في السعودية في الفترة من 2015 وحتى 2018، قرر العودة إلى وطنه والتفرغ للوحاته التشكيلية.
حينما تواصلنا معه، بدا الفنان السوداني الشاب مشغولا إلى حد ما، فهو يجهز عددا من الأعمال للمشاركة بها في معرض ينطلق في الأيام المقبلة بالخرطوم، ويضم لوحات عن شرق السودان، قبل أن يتحدث معنا عن رؤيته للفن كإبداع وابتكار لأفكار غير تقليدية وربما غير مألوفة، وكان رسمه باستخدام القهوة أحد هذه الأنماط الابتكارية.

الرسم بالقهوة
كانت الصدفة وليدة لمشروع استثنائي للفنان السوداني. أصبح باستخدام القهوة، يرسم ما يشعر به وما يراه خياله تجاه السودان، وأهلها وطبيعتها. يعطي اللون البني الباهت للقهوة، بعدا أكبر ودرجة أعمق في التعبير عن البشر والطبيعة في هذا البلد، خاصة في المناطق المهمشة والفقيرة التي تظل بناياتها من الطوب اللبن، حيث يبدو كل شيء منهك، بدءا من البشر والمنازل وحتى الطبيعة.
يقول عبده لـ”أصوات إفريقية”: “بينما نحتسي القهوة تتغير درجات لونها في كل مرحلة، وهو ما يعطي اللوحة المرسومة بالبن الذي بداخلها تنوعا مميزا، فكلما اقتربت من قاع الفنجان تكتشف أن الألوان تنتقل إلى درجات أكثر عمقا وكثافة، وكلما كان البن مسحوقا بدقة شكل مزيجا رائعا من القهوة، وبالتالي ينعكس جمالا وإبهارا في اللوحة”.
شكل عبده تمازجا فريدا ساعده في إنتاج أعمال حققت نجاحا واسعا لمتذوقي الفن التشكيلي والتراجيدي، حيث جسد أفكاره وفلسفته في لوحات متنوعة تناولت قضايا كثيرة في المجتمع السوداني، وركزت في مضمونها على الهوية والفلكلور والعادات والتقاليد والملامح والأزياء والحياة السودانية عامة.
مزيج القهوة ذي النكهات المتعددة، ساعد الشاب السوداني أيضا في محاكاة البيئة السودانية، كما استطاع التعبير عن جمال الحواري والشوارع والمقاهي القديمة والمتاجر البلدية الأماكن العتيقة التي تحتضن الأسرار والذكريات، بالإضافة إلى رسمة الإنسان السوداني البسيط بجلبابه البلدي.

يظهر من لوحاته أثر خلفيته الريفية البسيطة على أعماله، التي لم تخرج كثيرا عن بيئته فرسم لوحات متنوعة عبرت عن المكان والزمن وتجاوزت الواقع إلى خياله الحالم بمستقبل زاهر وحالم لمنطقته ومجتمعه البسيط، حيث نشأ وسط الحارة والجيران.
جاءت أعماله منسابة كما القهوة حين صبها وتدفقها من فوهة الابريق، يوضح عبده: “أعمالي تتناول المحيط الذي أعيش فيه، فهي واقع وتعبير عن كثير من القضايا ونمط المجتمع”.
في إحدى اللوحات، التي تظهر رجل يسير في الشارع ومن خلفه المنزل الشعبي وشجرة النخيل، استطاع لون القهوة الباهت إظهار ليس فقط التفاصيل المرئية، ولكن حالة الإنهاك التي تطول كل شيء، سواء الرجل الذي يجاهد في المشي والنخلة المتهالكة، لتعبر بذلك عن الصمود والتعب والكفاح.
في لوحة أخرى تظهر النساء وسط الغبار والرياح الكثيفة. استطاع عبده بدرجات متفاوتة من القهوة، إظهار حال المرأة المكافحة التي تتحدى كل الظروف في المجتمع السوداني، حيث يظهرن النساء في اللوحة وهن يمضين في طريقهن عكس الريح، دون أن يفكرن لوهلة في التوقف أو الاستسلام.

تقديم السودان بشكل مختلف
يسعى صالح عبده إلى تعزيز حضور الفن التشكيلي في السودان، حيث ينشط في اتحاد الفنانين التشكيليين وهو من مؤسسي “نارتي غاليري”
كما شارك في عدد من المعارض المحلية، منها معرض عن دعم الوحدة والسلام، ومعرض جماعي بالمتحف القومي السوداني، وبينما يسعى إلى الوصول للعالمية، سبقته أعماله إلى الخارج إذ وصل عدد منها إلى الولايات المتحدة، وكندا، وألمانيا، وأستراليا، وإيطاليا، وقطر.
على الرغم من أن الرسم بالقهوة يعد مدرسة غير تقليدية إلا أنه وجد ترحيبا واسعا من زملاء الشاب السوداني من الفنانين، وإلى جانب الرسم بالقهوة استخدم أيضا ألوان الزيت والألوان المائية.
وعن تجربته الفنية ورؤيته لمدى قدرة الفن المستوحى من بيئة معينة على الوصول للجمهور في العالم كله، يقول: “تأثرت منذ فترة الدراسة بالحياة السودانية في القرية والأجواء الشعبية والتراثية، وظهر هذا في كثير من أعمالي إلى أن أصبح لي أسلوبي الخاص المستوحى منها، فالفن يجب أن تكون له رسالة وهدف، ومشروعي يهدف في المقام الأول إلى تقديم المجتمع السوداني والثقافة الشعبية والتراثية بشكل مختلف لأهل البلاد ولغيرهم على السواء”.
يأمل الفنان الشاب من مشاركاته في توصيل رسالة للعالم بأن السودان يزخر بمختلف الفنون والفنانين، على عكس ما هو شائع عنه، بأنه موطن للحرب والجهل والفقر.