spot_img

ذات صلة

جمع

تمويل أوروبي ورصاص ليبي: القصة المظلمة لخفر السواحل

"Help us, please, we’re going to die" —  كانت...

مدينة الألفية تتهدم: الإسكندرية تواجه مصيرها المحتوم بين سوء الإدارة وغضب البحر

الإسكندرية، عروس المتوسط و"منارة العالم القديم"، باتت اليوم مسرحًا...

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

  في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط...

هنا نولَد ومعنا حلم السفر.. عن رحلة عبور “نار المتوسط” بحثا عن “جنة إيطاليا”

وسط العديد من القرى الصغيرة التي ينقصها العديد من الخدمات ويبدو على ملامح منازلها الوضع الاقتصادي المتردي، تطل تطون، بمحافظة الفيوم شرقي مصر، بأبنية مزخرفة وفيلات ذات تصميم أوروبي حديث وعمارات شاهقة ومقاه تشبه الموجودة في أحياء راقية بالقاهرة، وكأن هذه القرية ظهرت بالخطأ في هذه المنطقة الفقيرة، التي يعيش معظم سكانها على الزراعة.

إيطاليا الصغيرة

“إيطاليا الصغيرة”، هكذا يعرفها سكان القرى المجاورة، بسبب هجرة الكثير من أبنائها إلى إيطاليا، وطراز مبانيها المستوحاة من الطراز الإيطالي.
تضم تطون 54 ألف مواطن تقريبا، بحسب المجلس المحلي للقرية، يوجد بينهم 17 ألفا في إيطاليا، أغلبهم سافر بشكل غير شرعي لاسيما خلال السنوات العشر الأخيرة. عدد من المهاجرين وصلوا إلى هناك وهم دون سن 18 عاما. جميع العائلات في القرية يعرفون هذا القانون الإيطالي الذي ينص على عدم إعادة ترحيل الأطفال دون السن القانونية إلى بلدانهم الأصلية، ويحاولون الاستفادة منه.
استطاع، حسام البالغ من العمر 22 عاما، تحقيق حلمه أخيرا، الوصول إلى إيطاليا، العام الماضي، عقب انتهاء أزمة جائحة “كوفيد 19”. خلال 5 سنوات، حاول 4 مرات للوصول إلى الجانب الآخر من البحر المتوسط، عبر الهجرة غير الشرعية، فعل ووالده كل شيء من أجل تحقيق هذا الحلم، تدرب على البناء حتى يصبح عامل بناء حينما يصل إلى هناك، بينما باع والده قطعة أرض تملكها الأسرة لتمويل عملية السفر.
باءت المحاولة الأولى لحسام للسفر إلى إيطاليا عبر مدينة رشيد، شمال الدلتا المصرية، بالفشل، بعدما رصد خفر السواحل المصري السفينة التي تقله. هنا قرر تغيير خط سيره، ليحاول عبر ليبيا. ليبدأ صراعا مع الجحيم.
خلال محاولته الأولى، تعرض للاختطاف على الطريق بمجرد دخوله الأراضي الليبية. لكنه يستطع الإفلات بعد تجربة مأسوية كافية لإثناء أي شخص عن السير في الطريق ذاته. أصابه الإحباط بضعة أشهر قبل أن يقرر المحاولة من جديد، عبر الطريق نفسه. أعد نفسه من جديد بالأموال اللازمة لتمويل الرحلة. متجها مع آخرين إلى ليبيا، هذه المرة لم يتم اختطافه لكنه تعرض للاعتقال من خفر السواحل في نهاية عام 2019، وتم وضعه في مركز احتجاز داخل العاصمة طرابلس.
بعد شهرين من الاحتجاز، تمكن حسام من الإفلات بمساعدة أحد المهربين لنقله إلى الجانب الآخر من المتوسط. أخيرا نجحت المحاولة هذه المرة، لم ينس حينها التقاط صورا بذقنه وشاربه الطويل على القارب لتخليد هذه اللحظة الفاصلة في حياته.
تكشف الحوادث التي تقع للمهاجرين المصريين إلى الجانب الآخر من المتوسط، كيف يحظى شباب قرية تطون بمكانة خاصة بين المصريين على كل قارب ينقلهم إلى الدول الأوروبية. في سبتمبر الماضي، لقى 12 شابا من قرى بمحافظة الفيوم حتفهم – الجزء الأكبر منهم من تطون – جراء غرق مركب هجرة أمام سواحل ليبيا.
“هنا الشخص يولد، ومعه حلم السفر إلى إيطاليا، كل منزل في القرية لديه شخص أو اثنين هاجرا إلى تلك الدولة”، يشرح حسام لـ”أصوات إفريقية”.

هجرة تحيا بموت الزراعة

حسام خلال رحلته إلى إيطاليا

منذ البداية، قرر حسام عدم سلك درب والده. “لم أسع لأن أكون مزارعا مثل والدي، الزراعة أصبحت مهنة الفقر”.
امتهن أهالي قرية تطون الزراعة، وكانت مصدر دخلهم الوحيد.تغير الوضع بحلول الألفية الجديدة، فالتغير المناخي أثر بشدة على القطاع، وانخفضت كمية المياه المتدفقة لهذه المنطقة البعيدة عن مجرى نهر النيل. اشتكى الأهالي من عدم وصول المياه للأراضي النائية.
تزامن ذلك مع رفع الحكومة الدعم تدريجيا عن صغار المزارعين، وطموح الأجيال الجديدة للبحث عن مصادر دخل جيدة بحثا عن مستقبل أفضل من الآباء، خلق كل ذلك سعيا حثيثا لدى الكثيرين لإلقاء أنفسهم في حضن البحر عبر رحلات مميتة أملا في الوصول إلى البر الآخر. وقع اختيار أبناء القرية على إيطاليا بعد الثراء السريع الذي حققه أحد أبنائها من المهاجرين الأوائل الدولة الأوروبية.
غيرت الهجرة الخريطة الديموغرافية للقرية، وكذلك طرق المعيشة. أصبحت تمتلك تجمعات كبيرة في عدد من المدن الإيطالية، تستقبل القادمين الجدد وتوفر لهم العمل، لاسيما في نابولي وميلانو وروما، بحسب شهادات بعض المهاجرين من تطون. خلال مدة قصيرة، استطاع حسام الحصول على مسكن والبدء في عمل مؤقت في أحد مواقع البناء، بمساعدة أحد أصدقائه السابقين.
مرة تلو الأخرى، يرسل أبناء القرية أموالهم بـ”العملة الصعبة” إلى أسرهم من الخارج. يسعى كل مهاجر لامتلاك منزل جديد في قريته بمقومات فاخرة تظهر نجاح رحلته ومكانة أسرته الجديدة التي خلقتها عائد هجرة الأبناء. الكثير من الأسر اشترى أراض زراعية لإقامة منازل عليها. والنتيجة: تضاعفت مساحة القرية منذ بداية الألفية على حساب أرض الزراعة، التي فقدت قيمتها كمصدر للدخل، وتسببت التوسعات في تقاطع تطون مع بعض القرى المجاورة.
أدى ذلك أيضا إلى ارتفاع تكلفة الزواج، إذ يفضل الآباء تزويج بناتهم إلى المهاجرين للخارج، بدلا من الشباب الذين لم يهاجروا. عمق هذا التفضيل هوة العدالة الاجتماعية بين أسر المهاجرين وأسر غير المهاجرين، ليدفع هؤلاء الآخرون إلى إرسال أبنائهم إلى الخارج مهما كان الثمن.
أثار هذا الثراء الكبير لأهالي قرية تطون، الناجم عن الهجرة، أبناء غيرها من القرى المجاورة، إذ عمدوا إلى إرسال أبنائهم إلى القاهرة أو إلى إيطاليا، للبحث عن عمل. ومثل تطون، شهدت هذه القرى توسعات بنائية كبيرة على حساب الأراضي الزراعية.
يقول سليمان عوض، أحد شباب تطون، “جيراننا على جانبي البيت سافر أبناؤهم إلى الخارج وأرسلوا المال وأعادوا بناء بيتين فاخرين، كان من المحزن النظر للمنزلين حولنا، بينما ما يزال بيتي قديما وصغيرا. لذا قررت الهجرة بأي ثمن. باع والدي قطعة أرض له لتمويل سفري”، قبل أن يضيف، “من أجل الزواج في القرية، عليك امتلاك شقة جديدة، وهذا مكلف للغاية، بالإضافة إلى التكاليف والمهر الكبير الذي بات تطلبه عائلات الفتيات، لم يكن هناك خيار أمامي سوى خوض الرحلة الخطرة إلى إيطاليا، وإن كان علي مواجهة الموت في طريقي للوصول”.

spot_imgspot_img