في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، تحت خيمة صغيرة، تعيش عائشة النور مع بناتها الثلاث وابنها الطالب الجامعي. الخيمة التي تسلمتها من إحدى المنظمات تفتقر إلى المقومات الأساسية للحياة. على أحد جنباتها يوجد “وابور” لطهي الطعام، وفي وسطها مرتبة متوسطة الحجم تفرشها العائلة للنوم، بينما تتناثر الملابس في كل مكان. هذه هي حياتها الآن، حياة فُقدت فيها الطمأنينة، لتصبح خيمة مأوى ومصدر حياة.
تروي عائشة أنها وصلت إلى هذا المعسكر بعد رحلة محفوفة بالمخاطر، فهربت مع أسرتها من جحيم الحرب في السودان. تتذكر، وبينما كانت تروي مأساتها، كيف تبدلت حياتها بشكل مفاجئ. قبل شهور قليلة، كانت معلمة في مرحلة التعليم المتوسط، تحظى بمكانة مرموقة في مجتمعها. لكنها اليوم، ضحت بكل شيء، وتركت وراءها منزلها وآمالها في مستقبل مشرق، لتجد نفسها تحت خيمة صغيرة مع أطفالها، بعد أن غرقت بلادها في ويلات الحرب.
“عندما بدأت الحرب، كنا نأمل أن تتوقف في أيام قليلة كما وعدنا الجيش السوداني في بداية الصراع. لكن الأيام تمر، والأسوأ لم ينتهِ بعد. شاهدنا الموت يحيط بنا، فقررت مغادرة منزلنا مع أسرتي والفرار إلى ولاية الجزيرة، ومن هناك عبرنا إلى جنوب السودان ثم إلى أوغندا”، تحكي لـ”أصوات إفريقية”
حال عائشة هو نموذج حقيقي لمعاناة الآلاف من اللاجئين السودانيين الذين وصلوا إلى معسكر كرياندنقو في منطقة بيالي. وكثير منهم يعتبرون أنفسهم محظوظين، لأنهم تمكنوا من الهروب من جحيم الحرب إلى بر الأمان في أوغندا.
ملايين النازحين وجرائم مروعة
ومع استمرار الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يزداد عدد اللاجئين في المعسكر يومًا بعد يوم. معظمهم يواصلون الانتقال إلى المدن الأوغندية بحثًا عن تعليم أفضل وحياة أكثر استقرارًا.
في نوفمبر الماضي، أكدت مفوضية شؤون اللاجئين أن النزوح من السودان وصل إلى مستويات غير مسبوقة. وقالت إن المدنيين كانوا يُستهدفون بسبب هويتهم العرقية، وأن العديد منهم تعرضوا للقتل، بينما كانت النساء يتعرضن للاغتصاب أثناء محاولات الفرار. تروي العديد من النساء والرجال الناجين مشاهد صادمة، مثل رؤية الجثث الملقاة على الطرقات خلال رحلاتهم المحفوفة بالمخاطر.
وبحسب الأرقام، فقد فر أكثر من 3 ملايين شخص من السودان منذ بداية الحرب قبل أكثر من 20 شهرًا، إلى دول مثل مصر وتشاد وجنوب السودان، وليبيا وحتى إفريقيا الوسطى وأوغندا. أما الذين بقوا في الداخل السوداني، فقد نزحوا إلى مناطق أخرى هربًا من مناطق الصراع.
مساعدات متناقصة
في معسكر كرياندنقو، تقدم الحكومة الأوغندية تسهيلات كبيرة للاجئين السودانيين، حيث تسهل إجراءات دخولهم بدون تأشيرات، ويتم تجميعهم في نقاط حدودية مع جنوب السودان، ثم نقلهم إلى المعسكر.
بالنسبة للاجئين، تدير مفوضية اللاجئين المعسكر وتقدم لهم الدعم الغذائي في البداية بنسبة 100% لمدة 3 أشهر، ثم تتناقص النسبة تدريجيًا إلى 60% ثم 30%، حتى الشهر العاشر، حيث يحصلون على 14 شلن للفرد. ورغم قلة الدعم، تمكن العديد من اللاجئين من فتح عدد من المطابخ الخيرية بمساعدة المنظمات الإنسانية، وهم يسعون لإنشاء 8 مطابخ جديدة لتقديم الدعم للأسر الأكثر احتياجًا.
أما الأطفال في المعسكر، فتسعى المنظمات الإنسانية لتوفير الرعاية النفسية لهم، حيث يتم تنظيم نشاطات مثل الرسم والتسلية لتخفيف صدمة الحرب. الطفلة رغدة رسمت بيتًا صغيرًا وطائرة وشمسًا مشرقة، بينما رسم الطفل عبد اللطيف علم بلاده، ملمحًا إلى حنينه لوطنه.
وفي ظل هذه الظروف، لم ينسَ السودانيون في معسكر كرياندنقو وطنهم. النساء تجمعن في جلسات قهوة يتبادلن خلالها الذكريات عن بيوتهن، وحكايات الحرب التي شتتت أسرهن. سهام عبد المحمود، إحدى اللاجئات، تقول: “نعيش هنا بأجسادنا، لكن قلوبنا وأفكارنا ما زالت في السودان. لم ننسَ وطننا يومًا، وما زلنا نذكر بيوتنا التي تركناها بعد أن اضطررنا للهروب من القتل والاغتصاب”.
العديد من المنظمات الإنسانية تدير عمليات الإغاثة في معسكر ببالي، أبرزها: المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، برنامج الغذاء العالمي (WFP)، منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، منظمات دولية غير حكومية، الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر، أطباء بلا حدود (MSF)، منظمة إنقاذ الطفولة (Save the Children)، منظمة كير الدولية (CARE International)، المجلس النرويجي للاجئين (NRC)، الصليب الأحمر الأوغندي (Uganda Red Cross Society)، بالإضافة لمنظمة الإغاثة والتنمية الدولية (Refugee Law Project)، وهناك أيضا منظمة شؤون اللاجئين الأوغندية (Office of the Prime Minister – Refugee Department) وهي مسؤولة عن تنسيق عمليات الإغاثة في مناطق اللاجئين.
رغم جهود هذه المنظمات، ما تزال ظروف اللاجئين صعبة، خاصة مع الأمطار الغزيرة التي تستمر طوال العام، ما يتسبب في أضرار كبيرة للمساكن.
تستمر الحياة في معسكر كرياندنقو، لاجئون يواجهون واقعًا قاسيًا، لكنهم لا ينسون حبهم للوطن. في قلوبهم جوازات محبة تسافر عبر الحدود، رغم أنهم لا يملكون جواز سفر.
سيف جامع، مراسل “أصوات إفريقية” من أوغندا