أعاد إلغاء حفل الفنان الكوميدي الأمريكي ذا الأصول الأفريقية كيفن هارت، الذي كان مقرر إقامته في ستاد القاهرة، شرق العاصمة، في فبراير الحالي، الجدل حول نشاط حركة “الإفروسنتريزم”، في ظل المقاومة القوية على صفحات التواصل الاجتماعي في مصر لإقامة حفل هارت بالقاهرة، على خلفية دعمه لأفكار الحركة التي تبتني أن الأفارقة السود هم المواطنون الأصليون لمصر، وليس المصريين الحاليين.
جاء السبب المعلن لإلغاء الحفل من قبل الشركة المنظمة، هو وجود مشاكل لوجستية محلية، لكن العديد يرجحون أن السبب الحقيقي هو الجدل الذي أثاره تصريح متداول منسوب إليه، قال فيه “ينبغي أن نعلم أولادنا تاريخ الأفارقة السود الحقيقي عندما كانوا ملوكا في مصر، وليس فقط حقبة العبودية التي يتم ترسيخها في التعليم في أمريكا”.
حفل هارت ليس الأول من نوعه الذي يتم إلغاءه، إذ سبق وأن أحبطت مبادرات أثرية أبرزها “وعي مصر” إقامة مؤتمر بعنوان “العودة إلى الأصول” بمحافظة أسوان، كان مقررا له 25 و26 فبراير الجاري، وقف وراءه نشطاء محسوبون على حركة “الإفروسنتريزم”، كان من بينهم من زعم أن الرجال الأفارقة السود هم فقط من بنوا الأهرامات، وأن الأفارقة هم أصحاب الحضارة، وأنهم فى رحلة إلى مصر لإيقاظ الروح المقدسة، وتمرير الفكرة إلى الأجيال القادمة.
متى بدأت الإفروسنتريزم
يعود تاريخ تأسيس هذا التيار إلى نهاية القرن التاسع عشر، على يد مثقفين أميركيين من أصول إفريقية، كرد فعل على التصاعد الهائل للعنصرية وفكرة “التميز الأبيض” الذي حفزته التوسعات الإمبريالية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إضافة إلى موجات التمييز العنصري القوي التي عاشتها أمريكا.
يؤمن أتباع هذا التيار بأن الإنسان الأبيض عمل على مر العصور على “الاستيلاء الثقافي” لإنجازات السود (وليس قارة إفريقيا كلها)، أو استقى منها معارفه وإنجازاته الأخيرة. تحتل مصر مكانة هامة في مركزية فكر هذا التيار، وأبرز منظريها، شيخ أنتا ديوب (من أصول سنغالية) إذ وفقا لروايتهم، فإن الحضارة الفرعونية القديمة بكل إنجازاتها، من بينها الأهرامات، كانت “حضارة السود”، وأن ملوك مصر القديمة والشعب المصري آنذاك ينحدرون من أصول أفريقية، تحديدا الملك كوش، لاسيما الملكة تي زوجة أمنحتب الثالث في الأسرة الـ 18 وإخناتون ونفرتيتي وتوت عنخ أمون والملك سنوسرت.
يزعم أتباع التيار الذي يناصره كيفن هارت أنه جرى تحريف للنصوص المصرية القديمة والنقوش لإظهار أنها حضارة بيض. الاتهامات طالت أيضا علماء الآثار المصريين، بأنهم يلونون المقابر باللون الأبيض بهدف تزوير التاريخ، ويكسرون أنوف التماثيل الفرعونية لإخفاء ملامح الأنف الأفريقي.
ليس فحسب، يرى هذا التيار أن اليونانيين سرقوا ثقافتهم من مصر “السوداء”، وهو يشكل بعض الجور على أهمية هذه الحضارة وإسهاماتها لاسيما في مجال المؤسسات الديمقراطية.
مغالطات الإفروسنتريزيم
في مقال نشره استاذ الأدب المتوسطي بجامعة مونتكلير بولاية نيو جيرسي الأمريكية، جروفر فور، في عام 2005 على موقع الجامعة، تحت عنوان “مغالطات الإفروسنتريزم”، أوضح فيه أن الحركة تضر بالتعددية الثقافية في القارة الإفريقية، إذ أن هناك العديد والعديد من الثقافات في القارة، مثل الثقافة الفرعونية وثقافة دول المغرب في الشمال (الأمازيغ).
وتابع الكاتب بالقول إن المصريون القدماء ليسوا أسلافا ثقافيا أو وراثيا لشعوب غرب إفريقيا أو السكان السود الأمريكيين، وإن اختزال الثقافة فقط في القارة، على أنها ثقافة السود، هو “علما زائفا وعنصريا ومنغلقا وقوميا ذات طابع إقصائي للآخر”، ليؤكد أن أتباع هذا التوجه وقعوا في نفس الفخ العنصري الذي كان يواجهه السود من قبل البيض.
الإفروسنتريزم تضر بالسود أكثر ما تنصفهم، فهي أيضا شكل من أشكال الاستبدادية، لأن الطلاب السود وأتباع التيار يجبرون على تصديق تعليمات قادتها، وطاعتها دون التحري منها، كما أن اقتصار الفخر على إنجازات أسلاف بعيدين، هو أمر خاطئ ويحمل توجه عنصري وإقصائي، بحسب الكاتب.
جدلية الإفروسنتريزم ومصر
تتبع الإفروسنتريزم نهج إقصائي لباقي الحضارات الإفريقية، مثل الموجودة في شمال إفريقيا أو الوجود غير الأسود في القارة، إذ ترى أن من ينتمي لمصر حاليا هم خليط من جنسيات كثيرة لا تمت بصلة للعرق المصري القديم، ويصنفون السكان الحاليين بأنهم عرب غزو مصر واستوطنوها.
يزعم أتباع هذه النظرية أن الفرعون المصري أصله من السودان، وأن المصري الحالي ليس له علاقة بالمصري القديم، بل إن المصري القديم مات أو هجر الجنوب وإن كل من هم في شمال مصر هم جنسيات كثيرة بعيدين عن العرق المصري.
تشكل نظريات الإفروسنتريزم – التي يؤمن بها هارت- بشأن التاريخ المصري القديم جدلا واسعا، لأنها تختزل الجنس البشري فقط بين الأبيض والأسود. يوضح جروفر أن المركزية الإفريقية تشوه التاريخ المصري بشكل خطير، فلم يكن المصريون “زنوج” بشكل عام، على الرغم من وجود عدد قليل من سلالات الحكم الذين كانوا من السود. يشير المؤرخ إلى أن المصريين لم يكونوا عنصريين لعرق ضد الآخر، فقد تزاوج الناس في هذه الفترة من مختلف الألوان.
ليس جروفر فقط هو من يضحد نظريات هارت وأتباع الإفروسنتريزم بشأن التاريخ المصري، ولكن علماء الآثار والمهتمين بالتاريخ المصري، من بينهم عالم الآثار المصري المعروف زاهي حواس، الذي نفي أي علاقة بين بناء الأهرامات والأفارقة، موضحا أن الأفارقة والكوش حكموا مصر في العصر المتأخر، وتحديدا في وقت الأسرة الـ25، أي بعد بناء الأهرامات بـ2000 سنة.
يرصد عالم الآثار المصرية زاهي حواس انتشار هذه الأفكار في الولايات المتحدة تحديدا وكذلك خلال البعثات السياحية الوافدة منها لزيارة المعالم المصرية، فهو كان شاهدا على تظاهرة سابقة لمجموعة من الأفارقة حينما سافر توت عنخ آمون إلى أمريكا في السبعينات، كان يرددون انهم أصل الفراعنة الذين أقاموا تلك الحضارة، بسبب وجود أحد التماثيل بالمعرض باللون الأسود.
يحكي حواس في مقال سابق له بعنوان “عن الفراعنة وأصلهم” أنه أثناء مرافقه لمعرض الملك رمسيس الثانى بمدينة دالاس بأمريكا نظمت مظاهرات بالمدينة أمام المعرض، بعد إلقائه محاضرة للمرشدين والأفواج توضح أن الحضارة الفرعونية بعيدة عن الأصل الزنجى والأفريقي، مشيرا إلى أن أكبر دليل على ذلك هو أن المصريين القدماء قد صوروا أنفسهم بأشكال مختلفة تماما عن أى أفارقة أو زنوج، وذلك تم تسجيله على المعابد، عندما صور الفراعنة أعدائهم أو الشعوب التى يتاجرون معها.
من أين أتى المصريون؟
خلال السنوات الماضية، تعددت الدراسات التي بحثت عن أصل المصريين والجنس الذي ينحدرون منه، أكثرهم شيوعا الدراسة البريطانية التي نسبت المصريين إلى بلاد الشام وتركيا وأنهم وليسوا أفارقة الأصل من وسط القارة السمراء، في حين توصل علماء ألمان إلى أن أصل الأسرة المصرية الأولى يعود إلى حام بن النبي نوح.
في المقابل، يتسمك علماء الآثار في مصر بأن المصريين أصلهم مصري وليسوا عربا أو أفارقة، لذا تبقى هوية مصر مادة خصبة دائما للتحليل، لكن ما جزم به أبو الأثريين المصريين الدكتور عبدالحليم نور الدين أن المصريين يعود أصلهم إلى الجنس السامي نسبة إلى سام بن نوح.
يشير نور الدين في مؤلفاته التي تناولت اللغة المصرية القديمة إلى أن المصريين ينتمون الى الجنس السامى ويبدو أن العنصر الحامى هو أول العناصر التى حلت بمصر ثم أخذت بعض العناصر السامية تفد اليها عن طريق شبه جزيرة سيناء وربما من بعض جزر البحر المتوسط فى الشمال، واختلطت بالسكان الأصليين فانصهروا جميعا فى بوتقة واحدة ليصبحوا جنسًا واحدا يتحدث لغة واحدة هى اللغة المصرية القديمة والتى جاءت مزيجا من تأثيرات سامية وأخرى حامية.
رغم انطلاق الإفروسنتريزم من منطلق جيد لإثبات أهمية السود في التاريخ الإنساني في ظل الاحتفاء بإنجازات الرجل الأبيض في الغرب خلال العصور الحديثة، لكن ما يؤخذ على الحركة وهارت، هو سعيهم لإثبات وجود ثقافة إفريقية موحدة للقارة يمثلها اللون الأسود، وينتقص من أهمية التعددية الثقافية التي نعمت به القارة السمراء.