بدموع لا يقوي الجسم على إنتاجها، وجسم نحيل، يحاول الطفل محمد – البالغ من العمر 9 سنوات – الصمود أمام أكبر مأساة عاشها منذ مولده: الجفاف القاتل. في قريته الواقعة بالقرب من مدينة بيدوا، كبرى المدن جنوب غربي الصومال، الأطفال والمراهقون يحتضرون من شح المياه وغياب الطعام، بينما لا يجد الآباء أمامهم سوى تكرار الدعاء، عسى أن تفتح السماء أبوابها لهم. انتظر الأهالي منذ الصيف أن تهطل الأمطار مثل كل عام، طال الانتظار ولم تصل أي نقطة ماء من السماء، فقد الأهالي دورة محصولهم الأولى، ولم ينتجوا طعاما. مر حتى الآن نصف موسم الأمطار، والسماء لم تجُد بنقطة واحدة على الأراضي القاحلة.
نصف الضحايا أطفال.. كابوس يهدد الملايين
في قريته، يأكل الجفاف أجساد الأطفال والنساء والرجال مثلما تأكل النار الهشيم. لا يجد الأهالي الطاقة اللازمة لدفن الأطفال الذين يموتون في القرية، لم يعد أمامهم سوى البحث عن أي مكان على جانبي الطريق، أما الأطفال الذين ما يزالون أحياء ينهش الهزال أجسادهم النحيلة، لا يتوقفون عن السعال، معزوفتهم الحزينة الدائمة.
يخيم الجوع والجفاف على القرية، ومثل غيرها من القرى والمدن المجاورة، أصبحت بيوتها خاوية، بعد نزوح أبنائها واحدا تلو الآخر، هربا من هذا الوحش المفترس الذي يقتل بلا رحمة، يردد الطفل محمد، يائسا: “أريد أن أنجو من هذا الكابوس”.
“هناك مستوى من اليأس والإحباط لم أشهده منذ ذروة أزمة دارفور”، هكذا تعلق لاورا تورنر، نائبة مدير برنامج الأغذية العالمية في الصومال، على الوضع الحالي، قبل أن تؤكد عمق الأزمة: “الوضع كارثي”.
يعاني الصومال من أسوأ موجة جفاف منذ 40 عاما. الأرقام تؤكد هول الكارثة. تشير أرقام الأمم المتحدة المنشورة حتى شهر أكتوبر إلى أن “الجفاف القاتل” يضرب 6.7 ملايين شخص من الدولة الواقعة شرقي القارة الإفريقية، بينما يعاني 1.5 مليون طفل من سوء تغذية حاد بحلول نهاية العام الجاري. لا يأتي الجفاف وحيدا، بل دائما ما تصحبه الأمراض القاتلة، تظهر الأرقام الأممية أنه تم تسجيل أكثر من 11 ألف حالة “إسهال مائي حاد” أو “كوليرا”، في 25 منطقة متأثرة بالجفاف منذ بداية 2022.
إلى جانب ذلك، كشف مسح جديد عن أن ما يقرب من ثلث الأطفال الصغار والنساء الحوامل في المخيمات يعانون من سوء تغذية حاد. لقد أعلنت الحكومة الصومالية أن بلادها تعاني من مجاعة منذ بضعة أشهر، لكن الدعوة لم تصل إلى آذان المجتمع الدولي غير الآبه بالكارثة حتى الآن، والنتيجة: معدلات وفيات متسارعة يصعب تقصيها وتسجيلها، ونصف الضحايا أطفال.
لا وقت حتى للبكاء على الميت

خلال رحلة هروبها من قريتها إلى مدينة بيدوا، عسكرت أسرة فطومة، في سهل ترابي خارج المدينة. تناشد فطومة ابنها عمر عدم البكاء، قائلة: “دموعك لن تعيد أخيك، كل شيء سيكون على ما يرام”.
خلال رحلة سير على الأقدام مستمرة لثلاث أيام إلى بيدوا، توفى ابن فطومة الأكبر “صلات” – البالغ من العمر 10 سنوات – من جراء الجوع المدقع، اضطرت والدته لدفنه في أرض صخرية مجاورة للطريق، رغم القمامة التي تغطي المكان. في موقع الدفن، تظهر كومة من الحجارة تحيطها القمامة من كل اتجاه، في مكان قاحل.
لم تجد الأم وقتا كافيا لمواساة نفسها على وفاة ابنها، كل تركيزها الآن في محاولة إنقاذ شقيقه الآخر وشقيقته “بيل” البالغة من العمر 6 أشهر بالكاد، الرضيعة التي جاءت إلى الحياة خلال الجفاف، فقدت وزنها، وأصبحت تسعل باستمرار، بينما تكسو تجاعيد العجز وجهها الطفولي.
“صلات” ليس هو الوحيد الذي دُفِن على عجل على الطريق الواصل إلى بيدوا، حيث يروي الكثير من أسر النازحين في جنوب شرقي الصومال، قصصا مروعة عن سقوط الأطفال كالفراشات الميتة خلال رحلاتهم إلى المدن الرئيسية وبينها العاصمة مقديشو، واضطرارها لدفنهم في على جانبي الطريق، بينما ينتظر الجميع ولو قشة تنقذهم من الغرق في هذه الدوامة المميتة.