محمد غانم.. الرجل الذي يحرق الأشجار منذ 30 عاما

آخر الأخبار

اشترك في قائمتنا البريدية

على بعد 30 كيلومترا من شمال العاصمة المصرية، القاهرة، يفاجأ المسافر على الطريق الزراعي عبر محافظة الشرقية، برائحة نفاذة خانقة وسحاب دخان أسود وبني اللون، تتصاعد كخيوط في السماء، وجبال من أخشاب الأشجار المتراصة على جنبات الطريق. للوهلة الأولى يعتقد أن هناك حريق واسع اندلع في المنطقة، قبل أن يقاطع السائق تفكيره بالقول: هذه مكامير فحم.
يعمل جزء كبير من الأهالي في منطقة أنشاص بجنوب الشرقية في تصنيع الفحم النباتي من أخشاب الأشجار عبر المكامير. إذ يرص العاملون فيها الخشب على شكل هرمي، قبل تغطيته بقش الأرز والتراب وإشعال النار فيه لمدة تتراوح بين 10 إلى 15 يوما، بمعزل عن الهواء، مثلما يفعل محمد غانم وعماله الخمسة.

30 عاما عمل في مكامير الفحم

يملك محمد غانم 3 مكامير فحم في منطقة أنشاص. على مدار 30 عام من حياته، ينحصر يومه بين الأخشاب والدخان والفحم والمشتريين. في الصباح الباكر يبدأ غانم – بمساعدة عماله – في رص الأخشاب في الحفرة المخصصة، قبل أن يغطيها جيدا بقش الأرز والتراب، ويشعل النار فيها. في الأيام التالية، يراقبون المكامير التي يصنعونها ليلا ونهارا عن كثب؛ خوفا من تسرب الهواء إليها أو انفجارها. لا يهمه، تدفق الدخان الكثيف، هذا يدل على أنها تعمل جيدا. بعد أسبوعين، يزيل غانم التراب عن المكمورة ليرى ثمار جهده: لقد احترقت أطنان الخشب وتحولت إلى فحم نباتي جاهز للبيع.
كل أسبوعين، ينتج غانم أكثر من 40 طنا، ويشكل ذلك دخلا مريحا لأسرته، بعيدا عن الزراعة. على مدار 3 عقود من حياته، حرق غانم آلاف الأطنان من الأخشاب لتحويلها إلى فحم نباتي. يأتي هذا الدخل على حساب صحته، التي شهدت تدهورا كبيرا جراء تعرضه الدائم للدخان والانبعاثات، أصبح غانم يسعل طوال الوقت، كما تأثرت بشرته جراء هذه البيئة الصعبة. كل هذا لا يهم، المهم أنه يحقق دخلا جيدا بمهنة يعمل فيها الكثيرون حوله.
تضم منطقة أنشاص حوالي 500 مكمورة مختلفة الأحجام، تنتج آلاف الأطنان من الفحم النباتي يوميا، ويعمل فيها آلاف من المواطنين، بحسب محمد غانم وغيره من المصنعين. ورغم هذا الإنتاج الضخم للفحم الذي يشكل مصدر دخل أساسي لمئات الأسر، إلا أنه مصدر إزعاج لباقي الأهالي الذين يعانون من مشكلات صحية خطيرة جراء الغازات والانبعاثات المتصاعدة منها.

يرفض غانم، مثل غيره من مالكي المكامير في أنشاص، الاعتراف بتسبب المكامير في تداعيات صحية وبيئية بالمنطقة، ليقول – بينما يوجه عماله للسيطرة على النيران التي بدأت تشب من إحدى جنبات مكمورة الفحم أمامه – “الدخان المتصاعد ينتج عن الخشب وليس مواد كيميائية”، قبل أن يستدرك، “الحكومة شددت قوانين العمل خلال الأعوام الأخيرة، ومنها منع الحرق خلال الليل، وخلال موسم حصاد الأرز بين شهري سبتمبر وديسمبر”.
لكن الأحداث تثبت عكس رواية غانم. ففي عام 2019، انفجرت مكمورة مجاورة لمدرسة النصر الخاصة، بقرية الزوامل وخلفت أدخنة كثيفة، الأمر الذي تسبب في إغماء 7 أطفال ومدرسين اثنين ونقلهم إلى المستشفى. تؤكد إدارة المدرسة أن العديد من الآباء رفضوا إلحاق أبنائهم بالمدرسة بعد هذا الحادث، جراء المكامير المنتشرة على جنباتها، والأدخنة الكثيفة التي تغطي سماء المنطقة.

تحيط قرية الزوامل أكثر من 60 مكمورة فحم.

يشتكي الأهالي من اعتماد المصنعين طريقة الحرق المكشوف التي تسبب تصاعد الأدخنة الكثيفة لاسيما أول أكسيد الكربون وأكسيد النيتروجين، وأضرارها على الصحة. يقول الكثير منهم إنهم يعانون من الالتهاب الرئوي وضيق التنفس ومشكلات بالرئة.

مصر والفحم النباتي.. ريادة “مضرة بالبيئة”

كن على الجانب الرسمي، تتعامل الحكومة مع هذه الصناعة بمكيالين مختلفين. فبفضل مكامير الفحم البدائية المنتشرة في غالبية محافظات الدلتا، وبعض المحافظات الجنوبية، تأتي مصر ضمن أكثر 10 دول انتاجا للفحم النباتي، بمعدل إنتاج يصل إلى 3% عالميا. إلى جانب ذلك، تصدر مصر أكثر من 30 ألف طن سنويا إلى الدول الأخرى.
تؤكد بيانات جهاز شؤون البيئة المصرية الأهمية الكبيرة لمكامير الفحم التقليدية وغير الرسمية في عملية الإنتاج، إذ أحصى وجود 5 آلاف مكمورة في أنحاء الجمهورية، ينتشر أغلبها في منطقة الدلتا، وتنتج مليون طن من الفحم النباتي سنويا.
ويذهب الجزء الأكبر من الإنتاج إلى السوق المصرية، حيث يستخدم هذا النوع من الفحم في المطاعم والمقاهي وكذلك محطات الكهرباء ومحطات تحلية المياه ومصانع الأسمنت وغيرها. ومنذ عام 2014، أطلقت الحكومة سياسة العودة إلى استخدام الفحم، في محطات الكهرباء ومصانع الأسمنت، للهروب من أزمة نقص الغاز الطبيعي، وتكلفته الباهظة، قبل أن تخفف من هذه الاستراتيجية تدريجية مع تحسن إنتاجها من الغاز.

ورغم ذلك، تدرك الدولة أيضا، خطورة هذه المكامير البدائية، بيئيا وعلى صحة المواطنين، خاصة مع تزايد الشكاوى من سكان المناطق القريبة منها. وفي عام 2016، أصدرت وزارة البيئة، قرارا بتشكيل لجان عمل تنسيقية لحصر وإيجاد حلول المشاكل التي تواجه منظومة إدارة الفحم، وكذلك منح التصاريح البيئية المتعلقة.
ووفق هذا القرار، وضعت الوزارة شروطا بيئية على أصحاب المكامير، تهدف إلى تقليل الانبعاثات وتأثيرها على المناطق السكنية المحيطة. وعلى رأس هذه الشروط، استخدام أفران معدنية صديقة للبيئة، وتسجيل العمالة وإدراجها ضمن نظام التأمينات، ومنع إصدار تصاريح للتصدير لأصحاب المكامير البدائية حتى يوفقوا أوضاعهم، مع منحهم مدة تسمح بهذا التحول دون عرقلة إنتاجهم.
بالتوازي مع اقتراح التحول للأفران المعدنية، بدأت الدولة في عمليات استهداف واسعة للمكامير حول البلاد. خلال يناير الجاري، أعلنت محافظة الدقهلية إزالة 196 مكمورة، في حين أعلنت محافظة البحيرة إزالة 78 أخرى، لمخالفتها للاشتراطات البيئية وحفاظا على الصحة العامة. وفي أكتوبر الماضي، أزالت السلطات بالبحيرة 189 مكمورة.
بالرجوع إلى الأرقام المنشورة عن عمليات الإزالات خلال الخمس أعوام الأخيرة، تكشف تدمير عشرات الآلاف من المكامير حول البلاد، ورغم ذلك، يعود أصحاب المكامير مرة أخرى إلى نشاطهم مجددا، عبر حفر حفر جديدة. “خلال الـ6 أعوام الأخيرة، هدمت السلطات مكاميري لأكثر من 3 مرات. ربما أخسر قيمة ما تم تدميره، لكن أستطيع العودة من جديد، لأن المكامير هي مصدر دخلي”.
يرى محمد غانم وغيره أن الخطة الحكومية غير قابلة للتطبيق، لأن أسعار الأفران تتراوح ما بين 800 ألف إلى 1.2 مليون جنيه، وهو مبلغ بعيدا عن متناول يده، إذ أن رأس مال أعماله لا يتخطى 300 ألف جنيه، بحسب تقديره. وبالنسبة لخسارته التصدير؟ “لا يهم، الطلب المحلي بأسعار جيدة وبكثافة”.
حتى الآن، مرت أكثر من 6 سنوات على وضع خطة توفيق الأوضاع، تستمر لعبة القط والفأر بين الحكومة وأصحاب المكامير، دون الوصول إلى حل جذري، فبالنهار تهدمها الحكومة، وليلا يعود أصحابها لإقامتها مجددا، فقط حفر الأرض ووضع الخشب وإشعال النار، هو كل ما يلزم، بينما البيئة والإنسان لا ينجوان من تأثيراتها الكارثية.

Facebook
Twitter

أحدث المقالات

سواحل تونس تتحول إلى مقابر مع تزايد غرق قوارب المهاجرين
وشهدت تونس في السنوات الماضية تدفق الآلاف من المهاجرين الأفارقة الذين يحدوهم الأمل إلى العبور نحو الضفة الأخرى من المتوسط
سائرون على الأشواك.. نازحو تيغراي: نخاف العودة للوطن ونخشى الموت خارجه
وفقًا للأمم المتحدة، تشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون شخص ما يزالون نازحين داخليًا بسبب حرب تيغراي
أروى صالح.. أتطلع داخلي فلا أجد سوى مقبرة جماعية
خُصوصيّة المأساة عند جيل خاض تجربة التمرّد، هي أنه مَهما كان مصير كلّ واحد مِن أبنائِه، سَواء سار في سكة