“الأفارقة السود بأعين جزائرية” – ذكرياتي التي قد لا تشبهني-

آخر الأخبار

اشترك في قائمتنا البريدية

أراهم في كل مكان، في الشوارع، على الأرصفة في الأسواق وحتى في الطريق السريع، يتجمعون ويطلبون الصدقات من المارة وأصحاب السيارات بلهجة جزائرية. تقول الدولة أن معظمهم مهاجرون غير شرعيون من دولة مالي وأنهم يرفضون الالتحاق بالمراكز المخصصة لهم ويمتهنون التسوّل. أما أنا فقد تعوّدت على وجودهم وباتت ردّات فعلي تجاههم آليّة لا تقتضي التحليل أو الكثير من الفلسفة، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي يشبه جميع الأيام: الازدحام والسيارات والمارة والأفارقة السود، كل العناصر المشكّلة لروتين عودتي إلى المنزل بعد انتهاء ساعات العمل موجودة، فما الذي جعل فكري يومها يشطح بعيدا في سجل الذكريات؟

قاربت دخول الحي مدركة أن هنالك مجموعة من الأفارقة السود بنسائهم وأطفالهم ممن سيمسكون بباب السيارة ويطلبون المال بإلحاح من أصحاب السيارات، فأغلقت زجاج سيارتي الأمامي كعادتي كي أتحاشى ذلك السلوك المزعج والمرهق نفسيا. لست الوحيدة التي تفعل ذلك، فأولئك الأطفال صغار البنية ومتهورون، تشبثهم بباب السيارة وهي تسير قد يودي بحياتهم، لكنهم لا يكترثون بل تجدهم يضحكون ويمرحون أحيانا حين القيام بذلك كما لو كانت لعبة تسلّيهم وتذهب عنهم الملل والتعب والجوع، لا ألومهم بل أشفق عليهم وأنظر بكثير من الغضب إلى تلك النساء اللواتي معهم: كيف لأم أن تترك صغيرها في ذلك الوضع الخطر؟ لم أجد جوابا لسؤالي، ربما لأنه لم يكن سؤالا حقيقيا .. هل كان اشمئزازا ؟ احتقارا؟ أم شعورا بالفوقية؟ يا إلهي… ما أبشعني ! وما أشبهني بغيري في هذا المجتمع المريض بالعنصرية!

ينتقدني أصحابي المقرّبون وأفراد من عائلتي ويتهكمون على أفكاري ومعالجتي للمواضيع السياسية والاجتماعية، يقولون إنني عاطفية وصورة نمطية عن الحقوقيين الذين لا يرجعون إلى الواقع في تحليلهم، ويفضلون التنظير المثالي حتى لو كان مستحيل التطبيق. لا أوافقهم الرأي ولا أجدني مثالية أو حالمة أو رومانسية الطباع والفكر ولطالما أزعجتني الشعارات التي لم تعد على مجتمعنا إلاّ بالهزائم والتخلّف والخروج من مصاف الأمم المتحضّرة. كل ما في الأمر أنني أجد في تصنيف الأشخاص أو الحكم عليهم استنادا إلى لون بشرتهم أو دينهم أو عرقهم أو ميولاتهم الجنسية أمرا في غاية السخف والبلادة يؤدي إلى سلوكيات همجية وعنصرية حتى لو تبجحنا ببراهين أخلاقية ودينية واقتصادية من أجل التستر على  عقدنا النفسية، ملهمنا الأول والأخير في التعامل مع من لا يشبهنا.

في سجل ذكرياتي الكثير والكثير عن الأفارقة السود بأعين جزائرية، كان أبي يقول معلّقا على مشهد من فيلم أو لقطة في مباراة:” لهذا كانوا يربطونهم مع الفيلة !” لم يكن فكري البسيط وأنا طفلة صغيرة يدرك بأن قول أبي في قمة العنصرية، لم أعرف أصلا معنى “العنصرية” وقتها، لكني ربطت بين العنف وسلوك أولئك السود الذين يظهرون في الأفلام أو يلعبون مباريات كرة القدم من خلال كلام أبي. أما أخي الذي اعتاد أن يسخر من كل شيء فقد كان يقول ضاحكا وهو يفسّر سر فوز العدائين السود النحيلين في مسابقات العدو الأولمبية: “هناك شخص ما يلوّح لهم برغيف خبز قصد تحفيزهم لنيل كلاّ من الرغيف والميدالية، ولهذا يفوزون في كل مرّة “.  كنا نضحك على نكتته الغريبة لأنها تسلّينا، لم يخبرنا أحد أننا وحوش بشرية تسخر من مآسي الجياع… أمّا أمي أو خالتي أو عمتي أو جدّتي أو جارتي أو أي امرأة كانت تتحدّث عن الجمال فقد كانت تشير إلى بياض البشرة الناصع، ولطالما استرقتُ السمع وأنا صغيرة إلى أحاديث النسوة وهن يروين حكاية الشاب الأبيض الذي سحرته فتاة سمراء فتزوّجها، وما أكثر عدد الضحايا الذين أوقعت بهم الفتيات السمراوات البشعات وأنا طفلة!!!

مرّت السنين وتغير شكل جسمي ونمت كفاءاتي الذهنية، أنا اليوم امرأة ناضجة تنظر إلى الأمور ببعد أعمق، لم أعد أكتفي باستقبال سلوكيات وحكايات الناس الغريبة عن السود قائلة: “مجرّد ثقافة بالية، لا أكثر ولا أقل!”. يهمني اليوم أن أدرك مصدر تلك العنصرية، لم ندرس يوما أننا أحفاد لويس الرابع عشر أو أننا ننتمي إلى الرايخ الألماني، فمن أين ينبع كل هذا الاستعلاء تجاه السود؟ قد ينفي الكثير هنا فكرة نبذ السود، وقد يتهمونني بالمبالغة وتشويه صورة الجزائريين كما هو معتاد حين يشير أحدنا إلى عيب من عيوبنا! لست هنا لأدين أو أبرئ أحدا، وإن كان لابد من ذلك فالأجدر أن أقف مع نفسي وأثبت لها أنني نجوت من شبح العنصرية  المكبوحة داخلي، قلت ذلك لأختي قبل أيام فأجابت مستهجنة: “ما الذي تقولينه؟ أية عنصرية؟ أنا لست كذلك ولا أنت، فمن أين جئت بهذه المخاوف؟” أخبرتها بابتسامة خبيثة عن مصدر الفكرة: “من أولئك الرجال التقدميين الذين طالما نادوا بحقوق المرأة وبمبدأ المساواة بين الجنسين إلى أن تزوجوا ومارسوا على زوجاتهم عقدهم الدفينة التي ورثوها عن أجداداهم… ما أدراكِ؟ قد نكون مثلهم ونرسب يوم الامتحان!”

لازلت أقفل زجاج السيارة حين أقرب من المتسوّلين السود، ولا زلت مقتنعة بأن ذلك السلوك أكثر ما يمكنني فعله حماية لأطفالهم من الناحية النفسية والجسدية طالما لم تتدخل الدولة للقيام بذلك، لا أستطيع مواجهة ذلك المخلوق الصغير الملّح في طلب المال بالرفض القاسي ولا أريد تشجيع أهله على التسوّل به، أدرك جيدا أن تلك الدنانير تذهب إلى جيوب أخرى غير جيوب الأطفال، لكنني لازلت أبحث عن ترسبات عنصرية في نفسيتي كي أفتك بها قبل أن تفتك بي.

Facebook
Twitter

أحدث المقالات

سواحل تونس تتحول إلى مقابر مع تزايد غرق قوارب المهاجرين
وشهدت تونس في السنوات الماضية تدفق الآلاف من المهاجرين الأفارقة الذين يحدوهم الأمل إلى العبور نحو الضفة الأخرى من المتوسط
سائرون على الأشواك.. نازحو تيغراي: نخاف العودة للوطن ونخشى الموت خارجه
وفقًا للأمم المتحدة، تشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون شخص ما يزالون نازحين داخليًا بسبب حرب تيغراي
أروى صالح.. أتطلع داخلي فلا أجد سوى مقبرة جماعية
خُصوصيّة المأساة عند جيل خاض تجربة التمرّد، هي أنه مَهما كان مصير كلّ واحد مِن أبنائِه، سَواء سار في سكة