إيمان وأميمة.. أن تدفع ثمن الفقر في مصر مرتين

آخر الأخبار

اشترك في قائمتنا البريدية

  • ما تهمتك؟
  • دين قدره 35 ألف جنيه [نحو 1100 يورو].
  • وعقوبتك؟ ثلاث سنوات في السجن؟
  • ما سبب الدين؟ كنت أساعد ابنتي في تكاليف الزواج التي لا نستطيع تحملها بسبب “قلة الحيلة”

لم تكن إيمان – ربة منزل مطلقة وأم لخمسة أطفال – تدري أن محاولاتها لتحمل أعباء أسرتها في تكاليف المعيشة ستقودها يوما ما إلى قضبان الحبس، لمجرد سعيها لتزويج إحدى بناتها، لتضطر للاختفاء عن الأنظار، بعدما أصبحت مطلوبة من الشرطة منذ أكثر من 6 أشهر.

في يونيو/ حزيران 2022، أدانت محكمة بمحافظة الشرقية بالدلتا إيمان – غيابيا – بالتقاعس عن سداد ديون تكبدتها منذ أكثر من عام، وهي منذ ذلك الحين تختبئ إيمان في منازل جيرانها هربًا من المداهمات المنتظمة من الشرطة بحثا عنها، وجريمتها الوحيدة: عدم النجاح في الوفاء بقرض بنكي متفق على تسديده في موعد محدد لتمويل زواج ابنتها.

“كل جريمتي أنني كنت أسعى لتوفير حياة كريمة لأسرتي، ومساعدة إحدى بناتي لإيجاد شريك حياتها، بعدما ضاق بنا منزلنا الصغير على من فيه، نحن نستحق المساعدة والتعاطف وليس الحبس”، تقول إيمان.

في 14 يناير 2023، توجهت إيمان – 48 عامًا – لطلب المساعدة من إحدى المنظمات الخيرية في مدينة “العاشر من رمضان” شمال القاهرة، مرتدية رداء أسود قديم ونقابا يغطي وجهها بالكامل لإخفاء هويتها، لكن حتى إذا أتيحت لها الفرصة لرؤية اسمها في قائمة النساء اللواتي ساعدتهن هذه المنظمة غير الحكومية الصغيرة، فقد فات الأوان بالفعل بالنسبة لآلاف من النساء اللواتي يقبعن وراء القضبان للسبب ذاته: عدم قدرتهن على سداد ديونهن.

تشير أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة في نهاية عام 2021 إلى أن حوالي واحدة من بين 5 نساء مصريات ربة أسر، وهو في حد ذاته صراع يومي مرير، فالغالبية العظمى منهن بلا عمل أو تعليم أو دعم من الدولة. يضطر معظمهن إلى إعالة أسرة كبيرة وتحمل التكاليف الباهظة للإنفاق على احتياجات أبنائهن أو بناتهن.

بحسب الأرقام الرسمية في مارس 2021، يوجد اليوم ما يقرب من 30 ألف غارمة في السجن، وهن وفق التقديرات يمثلن 25٪ من نسبة السجناء في مصر، كثاني أكبر فئة من المحبوسين بعد سجناء الرأي.

معظم هؤلاء النسوة، محكوم عليهن بالسجن لمدد تتراوح بين 3 و16 عاما، بعدما وقعن ضحايا سلامة النية، لرغبتهن في سد احتياجات عائلاتهن، من تكاليف معيشة، أو تجهيزات زواج، أو نفقات علاج أو تعليم، أو حتى شراء أجهزة منزلية بسيطة، لا تتعدى قيمتها مئات الدولارات، في ظاهرة يندر وجودها في كثير من دول العالم.

مع تزايد الأعباء الاقتصادية على الأسر المصرية – خاصة في الفترة الأخيرة – لا تجد النساء العائلات أمامهن سوى الاضطرار لخوض هذه التجربة المريرة، بالتكالب على طوابير الديون البنكية، أو توقيع إيصالات أمانة محددة المدة، قبل أن يجدن أنفسهن متعثرات في سداد الأقساط التي تتراكم واحدة تلو الأخرى، بعد تفاقم تكاليف المعيشة الأخرى على عواتقهن، ما يدفع الدائنين لتقديم شكاوى قضائية ضدهن، تنتهي بأحكام بالسجن، تزيد حياتهن بؤسا أكثر مما كانت عليه بالفعل.

توضح ظاهرة الغارمات كيف أصبحت النساء أولى ضحايا الفقر في مصر، فضلاً عن الفجوة الكبيرة بين الرجال والنساء في سوق العمل، فوفقًا لأرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المنشورة في مارس 2021، فإن 11.8٪ فقط من النساء في سن العمل وجدن فرصة في الحصول على وظيفة.

على خلاف إيمان، قضت أميمة زكي 3 سنوات ونصف بالفعل بين جدران سجن القناطر الخيرية، بعد كانت الضامنة لوالدها العامل باليومية في التوقيع على إيصالات أمانة كتبها على نفسه لشراء جهاز لابنته العروس، وتوفى الوالد ووجدت الشقيقة الكبرى نفسها أمام مصير سيء بعد أن قدم التاجر إيصالات الأمانة للنيابة.

تجربة مؤلمة مرت بها أميمة، بعدما اضطرت لترك إحدى طفلتيها التي تبلغ من العمر عامين من دون أن تعرف عنها شيء، بينما تراكمت ديون أخرى عليها عقب خروجها نتيجة تحملها نفقات الأسرة كاملة خاصة بعد طلاقها وحصولها على معاش قدره 320 جنيهًا فقط، في الوقت الذي أصيب بجلطة في إحدى ساقيها.

رغم ذلك، كانت الأم من بين سجينات الفقر القلائل من سعيدات الحظ، بعدما تبنت جمعية رعاية أطفال السجينات، قضيتها في عام 2017، فبعد الانتهاء من تأهيلها نفسيا، ساعدتها الجمعية في توفير مصدر رزق بفتح محل بقالة، قبل أن تنتقل إلى ورش تدريب الحياكة، لتنتظم بعدها في العمل داخل مشغل، وتبدأ معها رحلة حياة جديدة أكثر أمنا.

الجمعية ذاتها – التي تأسست منذ عام 1990 – أطلقت مؤسستها الكاتبة الصحفية نوال مصطفى مشروع قانون لمنع حبس الغارمين والغارمات، بتعديل المادة 341 من قانون العقوبات، وفي 5 يوليو 2022، وافق مجلس النواب المصري على إحالة مشروع قانون بتعديل قانون العقوبات لوضع حل قانوني لقضية الغارمات بتحويل الدين من جنائي إلى مدني إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية.

في أبريل 2022، اجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسي مع عدد من المسؤولين الحكوميين موجها بحصر أعداد المسجونين الفعليين من الغارمين والغارمات ودراسة حالاتهم تمهيدًا للإفراج عن دفعة منهم مع حلول عيد الفطر الماضي.

وحددت الحكومة الشرائح المستهدفة لعمل اللجنة الوطنية المختصة بالحد من ظاهرة الغارمين والغارمات، والتوزيع الجغرافي لهم، وقواعد بيانات المديونين وقيم الدين المختلفة، وكذلك الحصر الذى قامت به اللجنة بشأن الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الغُرم، بالإضافة إجراءات توفير حزم متنوعة من أدوات التوعية والاستشارات المالية البسيطة، وكذلك صياغة آليات آمنة للإقراض الميسر، ودراسة المشروعات المتعثرة وبذل الجهود لتوفير الدعم المهني والتقني والتدريب اللازم على كيفية إدارتها، إلى جانب مد مظلة برامج الحماية الاجتماعية للمستحقين من أسر الغارمين والغارمات، ووضع ضوابط وإجراءات لمتابعة مؤسسات الإقراض.

صندوق “تحيا مصر ” الذي تديره جهات في الدولة المصرية، بدوره رصد 42 مليون جنيه لـ”فـك كــرب الغارميــن والغارمــات بالســجون”، ضمن “مبادرة مصر بلا غارمين”، كاشفا عن استفادة 6 آلاف شخص من المبادرة حتى الآن، دون تحديد آلية الاختيار أو نوعية المساعدة.

في نهاية 2022، أعلن السيسي إنشاء ما يسمى “صندوق دعم الأسرة” ضمن قانون الأحوال الشخصية الجديد، مطالبا المقبلين على الزواج بدعمه ماليا، بدعوى حماية الأسر في أوقات الخلافات، إلا أن الصندوق نفسه يواجه كثير من الانتقادات، بسبب فرضه رسوم على المقبلين على الزواج، الأمر الذي يراه البعض عبئا ماليا إضافيا على كواهلهم، المثقلة بالفعل بديون الزواج ذاتها.

ياسر الهضيبي، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الوفد بمجلس الشيوخ، تقدم باقتراح بيتولى الصندوق مساعدة الأسر غير القادرة على توفير متطلبات الزواج الأساسية لبناتها بعد إجراء بحث اجتماعي من خلال وزارة التضامن، وتخصيص حساب بنكي تابع للصندوق لتلقي التبرعات المخصصة لهذا الغرض، للتصدي لظاهرة الغارمين والغارمات.

وأوضح الهضيبي أن أغلب الغارمين والغارمات محكوم عليهم بالسجن في ديون ربما لا تتعدى قيمتها بضعة آلاف، لشراء تجهيزات لأبنائهم وبناتهم المقبلين على الزواج، خاضعين للعادات الاجتماعية التي تدعم وتعزز وتدعم التبزير في متطلبات الزواج، ليصطدموا بتلاعب من بعض التجار بمضاعفة الفوائد أو استغلال بساطة بعض المواطنين بالتوقيع على إيصالات أمانة بمبالغ يعجزون عن سدادها، مطالبا بحل جذري لهذه الأزمة التي تهدد استقرار وتماسك ملايين الأسر المصرية من فئة غير القادرين أو الأكثر احتياجا.

مع قدوم شهر رمضان تتزايد الدعوات والحملات الرسمية والشعبية لدعم الغارمين والغارمات في مصر، الأمر ذاته يتكرر مع كل مناسبة للاحتفال بالمرأة، ومن بينها يوم المرأة العالمي، وغيره، لكن هذه المبادرات تتصادم مع دعوات أخرى، ترفض التعاطف مع هذه الفئة بدعوى وقف تشجيع غيرهم أن يحذو حذوهم ما قد يقود لتشريد أسر أخرى.

الممثلة المصرية الشهيرة شيرين، أعلنت في كلمة لها خلال ندوة بحضور وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج، في نهاية 2022، ممانعتها التبرع للغارمات لحل أزماتهن، متهمة إياهن بالبذخ في الإنفاق، قبل أن تعدل عن عن تصريحاتها، مشيرة إلى رفضها حبس أي مواطن أو مواطنة بسبب الفقر، لكنها أكدت في الوقت ذاته ضرورة الحرص في الإنفاق تجنبا للوقوع في أزمات مشابهة.

وبين متعاطف وممتنع ومبادرات رسمية وتطوعية، ما يزال هناك عشرات الآلاف من سجناء وسجينات الفقر بحاجة إلى جهود فعلية لإنهاء الأزمة بشكل جذري، بينما تكمن الإشكالية الكبرى في تجنيب مئات الآلاف من الأسر الأخرى خطر الوقوع في هذه المصير، في ظل تكالب أعباء المعيشة على كواهلهم.

Facebook
Twitter

أحدث المقالات

سواحل تونس تتحول إلى مقابر مع تزايد غرق قوارب المهاجرين
وشهدت تونس في السنوات الماضية تدفق الآلاف من المهاجرين الأفارقة الذين يحدوهم الأمل إلى العبور نحو الضفة الأخرى من المتوسط
سائرون على الأشواك.. نازحو تيغراي: نخاف العودة للوطن ونخشى الموت خارجه
وفقًا للأمم المتحدة، تشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون شخص ما يزالون نازحين داخليًا بسبب حرب تيغراي
أروى صالح.. أتطلع داخلي فلا أجد سوى مقبرة جماعية
خُصوصيّة المأساة عند جيل خاض تجربة التمرّد، هي أنه مَهما كان مصير كلّ واحد مِن أبنائِه، سَواء سار في سكة