في قلب صحراء النيجر القاحلة، على بعد 15 كيلومتراً من مدينة أغاديز، يقبع ما يُسمى بـ”المركز الإنساني”. مكان بُني على أمل أن يكون نموذجاً للحماية والكرامة، فإذا به يتحوّل تدريجياً إلى فضاء للحرمان والعقاب. منذ أكثر من تسعة أشهر، يخوض مئات اللاجئين اعتصاماً سلمياً متواصلاً، يرفعون أصواتهم في وجه الصمت الدولي وسياسات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) والسلطات المحلية، مطالبين بأبسط الحقوق: الغذاء، العلاج، التعليم، والحق في أن تُسمع أصواتهم.
بداية الأزمة: تعليق المساعدات الغذائية
في 30 مايو، أعلنت المفوضية رسمياً أنها ستوقف توزيع الغذاء ابتداءً من يوليو على جميع سكان المركز البالغ عددهم قرابة 2000 شخص، باستثناء نحو 270 مصنفين كـ”الأكثر ضعفاً”. لم توضح المفوضية بدقة معايير هذا التصنيف، مكتفية بالإشارة إلى ظروف صحية أو أسرية خاصة. لكن ما يعنيه القرار عملياً هو أن الأغلبية الساحقة تُركت لتصارع الجوع في عزّ الصحراء.
تقول المفوضية إن الخطوة جزء من “استراتيجية عالمية لتعزيز الاعتماد على الذات”، وإنها نتيجة عجز تمويلي عالمي تسرّع بسبب انسحاب الولايات المتحدة في عهد ترامب من منظومة التعددية. لكنها تبرر الأمر أيضاً بكونه انتقالاً مخططاً نحو الاعتماد على الذات عبر برامج التدريب المهني والمشاريع الصغيرة.
غير أن هذه اللغة البراقة لا تصمد أمام الواقع القاسي: “كيف يمكن الحديث عن الاعتماد على الذات ونحن في مخيم معزول في الصحراء، بلا عمل ولا مورد ولا أرض ولا فرص؟” يتساءل لاجئ سوداني مشارك في الاعتصام المستمر منذ سبتمبر 2024.
وعود رقمية مقابل حقائق ميدانية
في تصريحاتها الرسمية، تسرد المفوضية سلسلة من الأرقام لتبرير سياساتها: 200 شخص شاركوا في برامج كسب العيش عام 2024؛ 60 أسرة تلقت تدريباً مهنياً؛ 30 آخرون شاركوا في أنشطة الثروة الحيوانية؛ 20 امرأة في وحدة تحويل زراعي؛ 30 رخصة قيادة؛ 12 تعاونية تأسست. لكن اللاجئين يشككون في جدوى هذه الأرقام.
“تلقينا تدريبات منذ 2022 و2023، لكن لم يُعرض علينا أي عمل بعد ذلك”، يقول أحدهم. “الأرقام جميلة على الورق، لكنها لا تملأ بطون أطفالنا”.
هذا التناقض يكشف جوهر فلسفة “الاعتماد على الذات” كما تُمارس: إن فشلت في النجاة بالقليل الممنوح لك، فالمسؤولية تقع عليك وحدك. منطق نيوليبرالي يعيد صياغة الحقوق الأساسية كخيار فردي، لا كواجب على المجتمع الدولي.
خدمات أساسية في مهب الريح
لم يقتصر التراجع على الغذاء. منذ نوفمبر 2024، أُغلق المستوصف داخل المركز. تقول المفوضية إن الخدمات متاحة عبر “مركز صحي متكامل” في منطقة ميسراتا على بُعد 7 إلى 13 كيلومتراً، وإن سيارة إسعاف مخصصة تنقل الحالات الخطرة. لكن شهادات اللاجئين تنقض هذه الرواية: “لا توجد خدمات طبية متكاملة، فقط مسكنات ومضادات حيوية. لا علاج للأمراض المزمنة كالقلب والسكري والفشل الكلوي. توفيت لاجئة بعد الولادة في 3 مايو 2025، وتوفي أربعة آخرون بسبب الإهمال”.
التعليم بدوره يثير جدلاً مماثلاً. تقول المفوضية إن مدرسة ابتدائية على بعد 700 متر مفتوحة وتخدم اللاجئين والمجتمع المضيف، وإن النقل متوفر للثانويات في المدينة. لكن الأهالي يردون: “لا تعليم حقيقياً للأطفال، لا مواصلات، والدروس اللغوية التي بدأت عام 2021 توقفت بعد شهر لتعود متقطعة بغير اللغة المطلوبة.” الحاجز اللغوي والأمية المنتشرة يجعلان اندماج الأطفال في النظام الوطني شبه مستحيل.

القمع والصمت المفروض
تصاعد التوتر منذ أن أعلنت اللجنة الوطنية للأهلية (CNE)، المسؤولة عن ملفات اللجوء، حلّ اللجان التمثيلية للاجئين في مارس 2025، ووصفتها بـ”غير الشرعية”. في مايو، اعتُقل ثمانية من قادة الاعتصام لعدة أيام بلا تهم، ثم أُفرج عنهم. غير أن ستة منهم تلقوا في يوليو قراراً بتعليق طلبات لجوئهم بدعوى “الإخلال بالنظام العام”. بعض اللاجئين الذين حاولوا اللجوء إلى القضاء واجهوا الطرد أو التجاهل، بينما رُحّل آخرون إلى بلدانهم الأصلية عقاباً على التحدث إلى القضاء بشأن أوضاع المركز.
تُظهر هذه الوقائع كيف يُستخدم “الإطار القانوني” سيفاً مسلطاً على من يرفعون صوتهم، وكيف تتحول المفوضية – رغم بياناتها الداعمة لحرية التعبير – إلى متفرج عاجز أمام قمع السلطات المضيفة.
اللاجئة نوال داوود محمد، 27 عاماً، تعاني اضطرابات نفسية تفاقمت بفعل ظروف المخيم. أُطلقت من المركز دون متابعة، ثم اختفت. تقول اللجنة إنها شوهدت في قرية تبعد 80 كيلومتراً، لكن زملاءها يشككون: “لا نعرف إن كانت بخير أم لا. قد تكون مجرد رواية لتجنب الاعتراف بالفشل.”
منذ منتصف يوليو 2025، تتالت الكوارث: (انقطاع المياه في أشد شهور السنة حرارة، تاركاً 2000 شخصاً، بينهم 800 طفل، بلا ما يكفي للشرب تحت حرارة تتجاوز 50 درجة مئوية، حرمان 1730 شخصاً من الغذاء، فيما تعتبر المفوضية ذلك “تشجيعاً على الاعتماد على الذات”، بينما يصفه القانون الدولي بـ”العقاب الجماعي”، تدهور الرعاية الصحية إلى مجرد “مسكنات” بينما تموت نساء أثناء الولادة ويُطرد الأطفال من عيادات مغلقة، تصاعد تهديدات اللجنة الوطنية للأهلية ضد ناشطين يرفضون الصمت، مع التلويح بسحب صفة اللجوء).
كل ذلك أدى إلى تفاقم الأوضاع النفسية. يقول أحدهم: “الضغط أصبح لا يُحتمل. لم نعد نعرف إن كنا لاجئين أم سجناء”.
بين أوروبا والنيجر: المخيم كأداة سياسية
تُرجع المفوضية التحديات إلى عدم الاستقرار الإقليمي: أزمات في مالي وبوركينا فاسو وتشاد ونيجيريا وليبيا تدفع بموجات نزوح نحو النيجر. لكن ما تغفله هذه السردية هو أن المخيمات مثل أغاديز ليست مجرد استجابة للأزمات، بل أيضاً ثمرة لسياسات أوروبية تريد إبقاء اللاجئين بعيداً عن حدودها. بتمويل أوروبي وإيطالي، تحولت أغاديز إلى “مستودع للبشر”، تفرغ فيه أوروبا مسؤوليتها القانونية والأخلاقية.
في بياناتها، تكرر المفوضية أن 138 مليون دولار مطلوبة بشكل عاجل لعام 2025، وأن التمويل المتاح لا يكفي. لكن السؤال الأعمق يظل مطروحاً: هل باتت حياة آلاف البشر رهينة “كرم” المانحين وميزانياتهم؟
وسط هذه الحلقة المفرغة من الوعود والتبريرات، يرتفع صوت اللاجئين بوضوح: “لم نطلب إعادة توطين، نحن نقول ببساطة إننا لا نريد البقاء هنا. الأسباب كثيرة: البيئة القاسية، الانتهاكات، القتل، الاعتقال التعسفي. لا نريد العيش في أغاديز”.
لكن الرد الرسمي يأتي بارداً: “الموقع تحدده السلطات الوطنية. إعادة التوطين غير ممكنة لغياب الإرادة السياسية من دول ثالثة. الحل هو تحسين الخدمات والاندماج المحلي”.
هكذا يُختزل صراع جماعي من أجل الكرامة إلى “خيار فردي”، وتُختزل حياة آلاف البشر في ملفات بيروقراطية، بلا أفق سوى الانتظار في صحراء لا ترحم.
بين روايات اللاجئين وردود المفوضية تتسع هوة انعدام الثقة. في وقت تُشدد فيه المفوضية على أرقام مشاريعها، يصرّ اللاجئون على سرد قصص موت ومرض وجوع. المفوضية تقول “نضمن الحق في الاحتجاج السلمي”، بينما يواجه قادة الاحتجاج الاعتقال وتهديد سحب اللجوء.
في النهاية، يظهر أن المركز الإنساني في أغاديز ليس نموذجاً للتمكين، بل مرآة لفشل منظومة كاملة: (فشل الدول الغنية التي تموّل وتتحكم من بعيد، فشل السلطات الوطنية التي تُضيّق وتُرهب، وفشل المؤسسات الدولية التي ترفع شعارات بلا حماية.
مصادر