الإسكندرية، عروس المتوسط و”منارة العالم القديم”، باتت اليوم مسرحًا لحكايات مأساوية تتجسد في انهيارات متسارعة لمبانيها، كارثة يسرّعها وطأة التغيرات المناخية وتردي البنية التحتية المتجذر. فمنذ مطلع عام 2023، سجلت المدينة الساحلية التي يتعدى عمرها ألفي عام، 44 حادث انهيار لمبانٍ، حصدت أرواحًا عديدة، فيما باتت آلاف المباني الأخرى مهددة بالمصير نفسه.
“كانت الساعة حوالي الخامسة والنصف صباحًا. كان الضباب كثيفًا لدرجة أن الرؤية كانت شبه مستحيلة. في غضون ثوانٍ، انهار المبنى على جيراننا”، هكذا يصف سعيد زِينهم، أحد سكان حي العطارين القريب من وسط المدينة، لحظة سقوط مبنى في 13 يوليو 2025 في حي العطارين بالمدينة. “اندفع الناس لإنقاذ الضحايا من تحت الأنقاض قبل وصول قوات الحماية المدنية. للأسف، توفي شقيقان وأصيب ستة آخرون”.
لا يعد هذا الحادث الوحيد من نوعه الذي تشهده المدينة الساحلية المصرية، بل هي فصل من سلسلة مآسٍ شهدتها منذ 2023، حيث أسفر انهيار 44 مبنى عن خسائر بشرية موجعة.
بينما كانت تُعرف بـ”منارة المتوسط”، تعبر الإسكندرية، ثاني أكبر مدن مصر وموطن لأكثر من 5.6 مليون نسمة، فترة صعبة. بين تقاعس الحكومات المتعاقبة والعواقب القاسية للتغيرات المناخية، يتسارع معدل انهيار المباني، بمعدل يتراوح بين حادث واثنين شهريًا.
جولة في المدينة توضح الوضع المأسوي الذي وصلت هذه المدينة المتجذرة في التاريخ الإنساني. فقدت المباني رونقها، وأصبحت متهالكة. تشبه المباني سكانها المنهكون من أزمة اقتصادية طاحنة وبطالة واسعة، وهروب رأس المال منها إلى مناطق أخرى محيطة باتت تزدهر، مثل الساحل الشمالي الذي أصبح محط لرأس مال متجدد. أمام هذا الوضع، لا يجد السكان الكثير من الخيارات، سوى الاستمرار في العيش في مبانٍ آيلة للسقوط.
وفي دراسة نُشرت في فبراير الماضي في مجلة “Earth’s Future”، أشارت إلى أن الإسكندرية ضحية لعقوبة مزدوجة: التغير المناخي والتوسع العمراني العشوائي. كشفت الدراسة أن المدينة سجلت انهيار أكثر من 280 مبنى على مدار العشرين عامًا الماضية، وهو معدل يزيد بعشرة أضعاف عن العقود السابقة. وتُرجع الأسباب إلى ارتفاع منسوب سطح البحر، وتآكل الشواطئ، وسوء التخطيط العمراني، وعدم ثبات التربة. كما تشير الدراسة إلى أن بعض المناطق، لا سيما وسط وغرب الإسكندرية، تعاني من تآكل ساحلي بمعدل عالٍ يصل إلى 31 مترًا، مما يسهل تسرب مياه البحر تحت المدينة.
العيش في ظل الخطر الوشيك
في موقع المبنى المنهار في 13 يوليو، يسود المشهد الفوضوي. الأنقاض أغلقت الطرق المجاورة وألحقت أضرارًا جسيمة بالمباني المجاورة التي كانت بالفعل متدهورة. وبينما تعمل فرق العمال على إزالة الركام، يخيم حزن عميق على وجوه السكان الذين ينددون بوضع حرج لا مخرج منه. يوضح سعيد زينهم: “كان يجب هدم المبنى منذ زمن بقرار من المحافظة، لكن السكان الفقراء ليس لديهم مكان آخر يعيشون فيه”.
جولة في حي العطارين وأحياء أخرى تكشف عن حجم أزمة حضرية مدمرة. المشهد مليء بالمباني في حالة يرثى لها. العديد من العمارات تظهر شرفات ساقطة أو مدعومة بأعمدة حديدية وخشبية تسندها حتى لا تقع على المارة، بينما انهارت أجزاء من هياكل أخرى بالفعل. في كل شارع تقريبًا، تظهر على مبنى أو أكثر إخطارات هدم صادرة عن السلطات.
في مايو الماضي، في أعقاب حادث آخر أودى بحياة خمسة أشخاص، من بينهم أم وأطفالها الثلاثة، كشف محافظ الإسكندرية خلال استجواب برلماني أن 24108 مبنى في المدينة معرضة لخطر الانهيار. من بينها، صدر بالفعل 8,000 قرار هدم، سواء كلي أو جزئي. ومع ذلك، غالبًا ما يتجاهل السكان معظم أوامر الإخلاء. يشرح زينهم: “يوقع الناس وثيقة تجعلهم مسؤولين عن حياتهم في حال انهيار المبنى، وبالتالي لا يحمّلون الحكومة المسؤولية”.
في مواجهة الخطر الذي يمثله البحر المتوسط، تم اتخاذ تدابير صارمة لحماية الساحل. أقيمت كتل خرسانية ضخمة على طول الشاطئ، بهدف وحيد هو تحصين المدينة من التآكل والفيضانات. وفقًا للأرقام الحكومية الرسمية، تطلبت مبادرة الحماية الساحلية هذه استثمارًا بلغ 2 مليار جنيه مصري (ما يعادل نحو 500 مليون يورو). غير أن هذه الكتل، ساهمت من تعميق قبح المدينة، وبُعدها عن تلك الصورة المرسومة في المخيلة الجماعية العالمية عن هذه المدينة التاريخية.
يفسر طارق عبد المحسن، المهندس المعماري والناشط في حزب التحالف الشعبي الاشتراكي المعارض، هذا التدهور المتسارع في المدينة، “جزء كبير من المباني يتجاوز عمره الـ 100 عام. وهي بلا صيانة. بالإضافة إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية، أدت البناءات غير القانونية والعشوائية، لا سيما بالقرب من الساحل، خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، إلى زيادة الضغط على التربة الهشة للمدينة”،
في مواجهة تسارع انهيارات المباني والتحذيرات المتكررة، اضطرت الحكومة إلى التحرك. ففي 15 يوليو، أعلن رئيس الوزراء المصري عن نية الحكومة بناء 60 ألف وحدة سكنية لسكان المباني المهددة بالانهيار في الإسكندرية.
هل هذا العدد كافٍ؟ “أفضل من لا شيء. إنه قرار متأخر، لكنه قد ينقذ أرواحًا”، يعلق سعيد زينهم. ويختتم هذا السكندري قائلًا: “90% من المباني في حي العطارين يجب إخلاؤها اليوم قبل الغد. لنا الله”.


