“لم يعد لديكم رصيد في حكم ليبيا”، “يسقط مجلس النواب”.. “يسقط المجلس الأعلى للدولة”.. “تسقط حكومة الدبيبة”.. “تسقط حكومة حماد”، كلها رسائل اتفق الليبيون عليها في مظاهرات جمعة الخلاص”، معلنين “كفرهم” بما عايشوه منذ التدهور الأمني الذي سقطت فيه البلاد عقب ثورة 2011.
مساء الجمعة الماضي، خرج الآلاف في ميدان الشهداء في العاصمة طرابلس، وعدة أحياء أخرى، مطالبين برحيل جميع الأجسام السياسية، في مقدمتها حكومة الوحدة الوطنية -المعترف بها دوليًا- برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة.
الداعون للتظاهرات التي استمرت حتى ساعات الصباح الأولى من اليوم التالي، منحوا الدبيبة 24 ساعة لتنفيذ مطالبهم، وإلا سيبدأون عصيانًا مدنيًا، الأمر الذي لاقى ترحيب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، لكنه تناسى التعليق على مطالب الشعب الرئيسية.
المنفي أغمض عينيه عن انتهاكات وثقتها المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان وحقوقيون، أبرزها منع تظاهرة مطالبة برحيل الدبيبة في مسقط رأسه بمدينة مصراتة، وإجبار موظفي الدولة على الخروج في تظاهرة لدعم الحكومة.
صراع النفوذ.. ونهاية الود
الأحداث في طرابلس بدأت في الاشتعال قبل أشهر عدة، فالدبيبة اصطدم بتطلعات حليفه القديم قائد جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي، عبدالغني الككلي، المعروف بـ”غنيوة”، والذي يعد من أكثر قادة المليشيات سيطرة ونفوذًا في طرابلس.
غنيوة لم يكن مجرد قائد مليشيا أو جهاز أمني “عادي” فالرجل المحكوم عليه بالسجن 14 عامًا بتهمة الإتجار وتعاطي المخدرات في عهد نظام القذافي، هرب من السجن في أحداث الثورة، ليكون مجموعة مسلحة فرضت سطوتها لنحو عقد من الزمان على منطقة أبوسليم -إحدى أكثر مناطق العاصمة تنوعا قبليًا.
قوة الككلي قربته من حكومة الوحدة، ليعين في رئاسة «جهاز دعم الاستقرار» منذ تأسيسه مطلع عام 2021 -بقرار حكومي- لكن صراعات المال والنفوذ أنهت علاقة الود، ليبدأ التوتر في أكتوبر الماضي، بسبب خلافات حول تسليم معسكر الثامنة في غريان إلى ميليشيا موالية لخصوم اغنيوة.
وزاد الصراع أكثر بعد اقتحام قوات الككلي قبل مقتله بأسبوع واحد مقر الشركة العامة للاتصالات، فضلًا عن الصراع على مكاسب مادية بين الككلي ومحمد الدبيبة بإحدى المؤسسات المالية.
مقتل الككلي.. وغضب المليشيات
في مساء ليلة 12 مايو الجاري، اتخذ الدبيبة قراره بالتخلص من صديقه القديم، فأمر مدير الاستخبارات العسكرية، آمر اللواء 444، محمود حمزة، بقتله، لتنتهي العملية بقتل غنيوة والسيطرة على مقار جهازه، وهروب وضبط جنوده.
رئيس حكومة الوحدة “خدعه” الانتصار المؤقت والذي احتفل به، وأطلق تصريحات بأنه بداية للتخلص من المليشيا، فأصدر قرارات تقضي بإلغاء إدارة العمليات والأمن القضائي، وتعديل هيكلة وزارة الداخلية وحل جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية.
وشملت القرارات تكليف العميد مصطفى علي الوحيشي رئيسا لجهاز الأمن الداخلي، وحل جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، مع استحداث إدارة جديدة باسم «الإدارة العامة لمكافحة الجريمة المنظمة».
قرارت الدبيبة التوسعية أثارت غضب المليشيات في عديد المناطق خصوصًا في أبوسليم وسوق الجمعة وجنزور وورشفانة وغيرهم، لتتحد وتنطلق صوب العاصمة وتندلع الحرب بالأسلحة الخفيفة والثقيلة ضد “مليشيا الدبيبة” المقننة والحليفة، في مقدمتها قوات اللواء 444 قتال.
الاشتباكات اندلعت في وسط الأحياء المكتظة بالسكان لتحصد القذائف أرواح المواطنين داخل منازلهم، ويلقى العشرات حتفهم، وتدمر ممتلكاتهم، وسط استغاثات بفتح ممرات آمنة، لتنطلق بعدها النداءات الإقليمية الدولية المطالبة بوقف إطلاق النار دون شروط.
إخفاقات الدبيبة تقود “ثورة شعبية”
إخفاقات قوات الدبيبة بدت جلية في أعقاب مقتل “غنيوة”، فشُلت الحركة في العاصمة، وتوقفت الدراسة إضطراريًا، بالإضافة إلى توقف حركة الطيران في مطار معتيقة، وهروب مساجين خطرين من سجن معتيقة.
ونجحت الجهود الدولية والإقليمية والمحلية، في إقرار هدنة “مؤقتًا”، لكن الغضب الشعبي أعاد الليبين إلى التظاهر مطالبين بالتخلص من المليشيات وحكومة الدبيبة، وهو ما استجاب له وزراء ومسؤولين في حكومة الدبيبة نفسها معلنين استقالتهم، بالإضافة إلى البلديات.
حكومة الدبيبة وجدت نفسها في مأزق داخلي وخارجي، في ظل الإدانات الدولية “الموثقة” باستهداف المدنيين، وتخلي تركيا -الداعم الرئيسي- عنها للمرة الأولى، ليضطر عبدالحميد إلى إلقاء كلمة محاولًا تجميل ما حدث، بأنه كان ضرورة لا مفر منها.
الدبيبة، قال: “ما قمنا به في أبوسليم كان خطوة ضرورية لإنهاء وجودٍ تمادى في تجاوز القانون، وارتبط بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.. وقد نُفِّذت العملية الأمنية بأسلوب منظّم وهادئ، دون مواجهات”.
وبرر ما حدث في اليوم التالي، قائلًا: “بعد انتهاء العملية بالكامل، شهدت العاصمة أحداثًا عسكرية مؤسفة لا علاقة لها بمجريات العملية الأمنية”، مردفًا: “مسار بناء الدولة مستمر، وحلم الليبيين في العدالة والأمان هو عهد نحمله على أعناقنا”.
كلمة الدبيبة لم تخفف من حدة التظاهرات، رغم محاولات الجهات الموالية له تحسين موقفه وتحريم التظاهر ضده، فقال مفتي ليبيا المعزول، الصادق الغرياني،إن «كل من خرج في ميدان أو كتب لنصرة أي جهة ضد الدبيبة (الأقل ضرارًا) سيموت ميتة جاهلية».
وزاد مأزق حكومة الوحدة مع إعلان عديد مجالس الأعيان، والبلديات دعم مطالب الشعب، وكشف سليم الشبل، مؤسس حراك سوق الجمعة، عرض حكومة الدبيبة رشاوي عليهم عبر وسيط دبلوماسي لوقف الاحتجاجات والتحشيد الشعبي ضدها.
ومع ارتفاع الآمال في “جمعة الخلاص”، وإعلان المبعوثة الأممية توصيات اللجنة الاستشارية لتوحيد المؤسسات وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والاتفاق الدولي على إنهاء الانقسام الليبي، فضلًا عن محاولات إشعال الأزمة أكثر من الشرق، بات استمرار الدبيبة المتمسك بالبقاء في منصبه خوفًا من المحاسبة “محل شك”.