أصبح البحر المتوسط حقل اختبار آخر لمسيرات إسرائيلية “هيرون” التي تستخدمها في قتل الفلسطينيين في قطاع غزة، بأيدي أوروبية. على مدار اليوم، تطير هذه المسيرات فائقة التكنولوجيا، فوق البحر المتوسط لتتبع تحركات قوارب المهاجرين، وترسل إشارات إلى السلطات الليبية والتونسية، من أجل الإسراع بإمساك المهاجرين وإعادتهم إلى شمال إفريقيا، قبل دخولهم المياه الإقليمية الأوروبية، أو وصول سفن الإنقاذ إليهم. باستخدام هذه المسيرات، أعادت أوروبا عشرات الآلاف من المهاجرين الذين خاطروا بحياتهم لعبور البحر هربا من الحروب والنزاعات التي لم يكن لهم ولبلادهم يد فيها، فتم دفعهم إلى مصير آخر مجهول، ربما يكون أكثر خطورة من قوارب الموت نفسها.
مليشيات أسرع من سفن الإنقاذ
على متن سفينة “جيو بارنتس” لإنقاذ المهاجرين التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود، انطقت أصوات قائد فريق البحث والإنقاذ، ريكاردو غاتي، عالية للمطالبة بكابتن السفينة بالقيادة بأقصى سرعة. أمام ناظريه من الجهة المقابلة، تراءت سفينة دورية حديثة تابعة لمليشيا خفر السواحل الليبي، وفي المنتصف، يقف قارب متهالك مكتظ بالمهاجرين دون هوى، بعدما تعطل في مياه البحر المتوسط.
في لحظة ما، أدرك غاتي أن مهمة إنقاذ المهاجرين باتت مستحيلة، فقارب خفر السواحل الليبي الذي سلمته إيطاليا لهم مؤخرا، يتحرك بضعف سرعتهم. لا يهتم خفر السواحل الليبي بإنقاذ المهاجرين من الغرق، بقدر منعهم من العبور إلى الجانب الآخر من البحر، أو تركهم لسفينة جيو بارنتس التي ستأخذها باتجاه إيطاليا. يدرك الليبيون أن الدعم الذي يأخذوه من الجانب الأوروبي هو مقابل منع التدفق للمهاجرين إلى الشاطئ الآخر من البحر بأي ثمن ممكن، حتى ولو كان إغراقهم.
مع وصول سفينة الدورية الليبية إلى قارب المهاجرين، فقد ربان جيو بارنتس كل أمل في إنقاذ هؤلاء المهاجرين، وطلب بوقف العملية والانسحاب، عقب فشل العملية، جلس غاتي يائسا أمام فريقه، وحاول مواساتهم، متعللا: “هذا جزء من العمل، وهذه هي البيئة التي يعملون بها، في بعض الأحيان، قد لا تتمكنون من إنقاذ البشر”.
استطاعت طائرة تابعة لمنظمة البحث والإنقاذ غير الحكومية، “سي بيرد”، تحديد هوية سفينة دورية خفر السواحل الليبية، أنها “بي 662 مزروق”، وهي واحدة من فرقاطتين تبرعت بهما إيطاليا إلى هذه المليشيا في عام 2023، ويواجه فريق هاتين الفرقاطتين الكثير من الاتهامات بتهديد فرق الإنقاذ في البحر المتوسط، وحتى إطلاق النار باتجاههم من أجل إجبارهم على التخلي عن إنقاذ المهاجرين.
جرائم ضد الإنسانية.. وموت “شبه محقق”
يعد طريق وسط البحر المتوسط للهجرة، انطلاقا من ليبيا وتونس باتجاه اليونان وإيطاليا، هو أكثر الطرق استخداما وخطورة للهجرة في العالم. فخلال العقد الآخير، لقى أكثر من 24 ألف شخص مصرعهم أو فقدوا في وسط البحر المتوسط.
وتكشف أرقام المنظمة الدولية للهجرة أنه خلال الفترة بين يناير وأكتوبر من العام الجاري، رصد أكثر من 18 ألف مهاجر وأجبروا على العودة إلى ليبيا، سواء من خلال خفر السواحل الليبي، أو عملية تنسيق وإبلاغ تتم بين السلطات اليونانية والإيطالية وخفر السواحل الليبية.
تكشف شهادات العديد من المهاجرين أن السلطات اليونانية والإيطالية تقوم في بعض الأحيان بجر سفن المهاجرين خارج مياهها الإقليمية باتجاه ليبيا من أجل تسليمهم إلى خفر السواحل الليبي الذي يعيدهم مجددا إلى ليبيا.
ومنذ عام 2017، تم الإمساك وإرجاع أكثر من 147 ألف مهاجر، بينما قدم الاتحاد الأوروبي عشرات الملايين من اليوروهات إلى خفر السواحل الليبي من أجل لعب دور “كلب الحراسة”.
وغالبا ما يوضع هؤلاء المهاجرون الذين تتم إعادتهم في مراكز اعتقال تديرها خفر السواحل، بدون تهم، ويتعرضون للتعذيب، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بأنها “جرائم ضد الإنسانية” تجرى في مراكز الاعتقال هذه.
إلى جانب ليبيا، فهناك تونس، التي تلقت ملايين اليوورهات من أجل لعب دور مماثل، ففي أيلول/ سبتمبر 2023، وقعت تونس والاتحاد الأوروبي على اتفاق “شراكة استراتيجية شاملة”، يشمل تمويل أوروبي بقيمة 100 مليون يورو سنويا لعمليات إنقاذ وإعادة المهاجرين إلى تونس، في اتفاق يقترب بشكل إجمالي من مليار يورو. ولاقى الاتفاق انتقادات واسعة في أوروبا وتونس بسبب محاولة أوروبا استخدام الدول المشاطئة للبحر المتوسط كسياج يمنع وصول المهاجرين لها.
وحقق هذا الاتفاق ما تريده أوروبا، ففي النصف الأول من عام 2024، أرجعت تونس إلى أراضيها أكثر من 30 ألف مهاجر، كما أجبرت آلاف المهاجرين الموجودين على أراضيها للرحيل في عملية تعقب وتخويف، الأمر الذي تسبب في وفاة العشرات منهم في الصحراء على الحدود مع ليبيا.
عين أوروبا “الإسرائيلية”
ما لم يدركه فريق سفينة “جيو بارنتس”، وسفن الإنقاذ الأخرى، أن هناك سلاح مخفي بات في يد الاتحاد الأوروبي يمكنه تعقب المهاجرين بسهولة في البحر المتوسط، وإبلاغ السلطات الليبية والتونسية بالموقع لإعادتهم إلى شمال إفريقيا، أنه المسيرات الإسرائيلية التي تستخدمها دولة الاحتلال في تعقب الفلسطينين في قطاع غزة.
ووفق منظمات حقوقية، يستخدم حرس الشواطئ الأوروبي مسيرات من نوع “هيرون”، وهي مسيرات إسرائيلية يتم استخدامها في قتل الفلسطينيين. وبحسب تقرير لصحيفة “ذا جارديان”، فقد اشترى الاتحاد الأوروبي مسيرات من هذا النوع بقيمة 100 مليون يورو بعد اتفاق مع شركة إيرباص وشركتين إسرائيليتين من أجل الاستخدام في البحر المتوسط.
يقول لصحيفة “آيريش تايمز”، أنطوني لوينشتاين، مؤلف كتاب “مختبر فلسطين، كيف تصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال إلى العالم، ”الطائرات بدون طيار الإسرائيلية هي في الأساس طائرات تم اختبارها فوق غزة لسنوات عديدة“، موضحا أنه يتم استخدامها في منطقة البحر المتوسط عبر وكالة أمن الحدود الأوروبية، فرونتكس.
وأضاف، “إسرائيل والاتحاد الأوروبي شريكان وثيقان للغاية، هناك علاقات دفاعية ضخمة، وكميات هائلة من الأسلحة التي يتم بيعها“.
غيرت مسيرات هيرون من قواعد اللعبة في البحر المتوسط، إذ يمكن لهذه الطائرات بدون طيار البقاء في الجو لأكثر من 30 ساعة، كما تغطي مساحات شاسعة. أما بالنسبة لطائرتي منظمات الإنقاذ، فهي تواجه تضييقات من سلطات الدول الأوروبية الموجودة على البحر المتوسط، كما لا تستطيع الطيران سوى لثماني ساعات فقط.
يقول المتحدث السابق باسم منظمة “سي ووتش” الألمانية العاملة في مجال الإنقاذ أن خفر السواحل الليبي سيكون بمثابة “بلا عينين” بدون مسيرات هيرون في البحر المتوسط.
وفي 11 حزيران/ يونيو الجاري، كشف تحقيق نشره موقع “انفستيجيت أوروبا” الاستقصائي أن صندوق الدفاع الأوروبي قد خصص ملايين اليورو لشركة صناعة الطائرات بدون طيار الإسرائيلية المملوكة للدولة IAI، من خلال شركتها الفرعية الأوروبية Intracom Defense في اليونان، بهدف تطوير مسيرات عسكرية مشتركة.
وبين التحقيق أن المستفيد الأكبر من هذا التمويل هي شركة “IAI” الإسرائيلية المتورطة بشكل مباشر في الصراع بغزة. ورغم الانتقادات الموجهة إلى هذا التمويل ودعوات لمراجعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، إلا أن الحكومات الأوروبية تستمر في تمويل هذه المشروعات العسكرية المثيرة للجدل.
في خضم هذا الواقع القاسي، تُبرر هذه السياسات بحماية الحدود، لكنها في الواقع تُسهم في تفاقم معاناة المهاجرين، حيث يُعاملون كتهديدات أمنية بدلاً من ضحايا يبحثون عن الأمان، فتتجلى مأساة المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث يُجبرون على مواجهة سياسات قمعية تُنتهك فيها أبسط حقوقهم الإنسانية الأساسية.
المصادر:
https://tinyurl.com/mr2at9cx
https://tinyurl.com/5xv9kkt8