spot_img

ذات صلة

جمع

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

  في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط...

أن تكوني إفريقية في زمن الحرب.. سردية الناجيات السودانيات

في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، جلست "ش....

أثمن من نوبل.. نجوجي واثينجو حين تصمت الجوائز وتتحدث أفريقيا بلغتها

لو كنّا نحفظ أسماء كتّاب القارة كما نحفظ روائيي...

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد بحر المتوسط كحاجز وحيد بين حياة قديمة وأخرى جديدة. في صيف 2024، تحولت مدينة سبتة إلى مسرح لمحاولة هجرة غير مسبوقة، حيث تدافع الآلاف لعبور هذا الممر المائي القصير والمخيف. وسط الجموع، تبرز حكاية فاطمة، امرأة حامل تحدّت الخوف والإرهاق، وركبت الموج بحثًا عن بداية مختلفة. لكن ما ظنّته ضفة الأمان، كان في الحقيقة بوابة لتحديات كبيرة، بين قوانين صارمة وتحديات إنسانية لا تعرف نهاية.

عبور المخاطر.. من شاطئ الفنيدق إلى سبتة

كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرًا. الضباب يلتف حول شاطئ الفنيدق المغربي كستار رمادي، يخفي عن العيون الجهة الأخرى من البحر. هناك، خلف ذلك الحاجز المائي القصير – كيلومتر ونصف فقط حتى شاطئ تاراخال في سبتة الإسبانية – كانت فاطمة، في شهرها الثامن من الحمل، تحدّق في نقطة بعيدة بالكاد تراها.

المسافة الخطية بين الساحل المغربي (فنيدق) وسبتة الإسبانية تقارب 1.5–2 كيلومتر، وقد تستغرق السباحة في هذه الظروف ساعات، خاصة بالنسبة لحالة فاطمة وهي في شهرها الثامن من الحمل
المسافة الخطية بين الساحل المغربي (فنيدق) وسبتة الإسبانية تقارب 1.5–2 كيلومتر، وقد تستغرق السباحة في هذه الظروف ساعات، خاصة بالنسبة لحالة فاطمة وهي في شهرها الثامن من الحمل

لم تكن وحدها. عشرات الرجال والشباب والنساء توزعوا على امتداد الساحل تلك الليلة من أواخر أغسطس 2024، في واحدة من أضخم موجات العبور البحري في تاريخ سبتة الحديث. ووفقًا لمنصة InfoMigrants، التي تُعنى بتغطية قضايا الهجرة في المتوسط، سجّلت السلطات الإسبانية خلال 24 ساعة فقط أكثر من 1500 محاولة سباحة نحو الجيب الإسباني. كثيرون أُعيدوا، آخرون غرقوا، وقلة وصلت… وفاطمة كانت من بين القلة.

فاطمة، الشابة الجزائرية التي تتباين التقارير بشأن عمرها بين السادسة والعشرين والثانية والثلاثين، لا تهتم كثيرًا بالأرقام. ما تعرفه فقط أنها كانت في عمرٍ يكفي لتخاطر من أجل ابنها.

بالنسبة لها، لم يكن الأمر مجرد مغامرة. كانت ترى في كل ضربة ذراع فرصة لحياة جديدة لطفلها الذي يتحرك في أحشائها. وكما قالت لاحقًا لقناة TVE الإسبانية: “أردت أن يولد ابني في أوروبا. لم أخشَ الموت، كنت أعلم أننا سنصل”.

لكن المسافة القصيرة على الخريطة كانت أطول بكثير في البحر. التيارات المتغيرة، المراقبة الأمنية، وجسدها المثقل بالحمل جعلت كل متر عبورًا أشبه بسباق مع الزمن. كانت تضرب الماء بيدين متثاقلتين، تتشبث بالهواء مع كل نفس، وفي قلبها يقين واحد: يجب أن أصل.

من أنياب البحر إلى المستشفى

في خضم الضباب، لمح قارب الحرس المدني الإسباني جسدًا يطفو على السطح بحركات متقطعة. اقتربوا أكثر، فرأوا امرأة شابة تحاول التشبث بأمل النجاة، بينما بطنها المنتفخ يكشف سرّ صراعها المزدوج: مواجهة البحر، وحماية جنينها.

سحبها أحد العناصر إلى متن القارب، فيما أسرع مسعفان بلفّها ببطانية حرارية لوقف انخفاض حرارة جسدها. كانت يداها ترتجفان، أنفاسها متقطعة، وشفاهها شاحبة. بصوت مبحوح أخبرت المترجم المرافق: “كِدت أفقد وعيي… لكن رأيت أضواء القارب وعرفت أنني نجوت”.

عناصر من الحرس المدني الإسباني وهم يُنقذون مهاجرًا حاول عبور البحر السباحة إلى سبتة

المصدر: El País
عناصر من الحرس المدني الإسباني يتدخلون لإنقاذ مهاجر نجح في عبور المسافة بحرا من شاطئ الفنيدق المغربي حتى تخوم سبتة الإسبانية، في مشهد يلخص خطورة الرحلة البحرية ومأساوية محاولات الهجرة. (المصدر: El País)

التقرير أشار إلى أن الحرس المدني تعامل مع حالتها على أنها طارئة إنسانية، لا مجرد مهاجرة غير نظامية. وجودها في الشهر الثامن من الحمل جعل الأولوية نقلها مباشرة إلى المستشفى الجامعي في سبتة، دون المرور بمراكز الاحتجاز المؤقتة التي يخضع لها معظم المهاجرين.

داخل سيارة الإسعاف، كانت عينا فاطمة معلقتين بالنافذة الصغيرة، تراقب أضواء المدينة التي لم تعرفها من قبل. المترجم قال لها: “أنتِ بأمان الآن… دقائق ونصل”. لكنها لم تكن تسمع سوى نبضها وتركّز على حركة الجنين، تطمئن أنه ما يزال بخير.

في غرفة الطوارئ، أجرى الأطباء فحصًا سريعًا أكد أن الجنين سليم، لكن جسد الأم كان مرهقًا ويعاني جفافًا حادًا. تم إعطاؤها محاليل، ووُضعت تحت المراقبة طوال الليل.

في تلك الليلة، أُسدل الستار على رحلتها في البحر، لكن الستائر لم تُفتح بعد على ما ينتظرها في الضفة الأخرى. لم تكن تعرف أن الساعات التالية ستحمل لها منعطفًا لم تتخيله، يبدأ من غرفة في المستشفى الجامعي بسبتة.

حين وُلد إسلام.. بدأ فصل آخر من الرحلة

بعد 48 ساعة فقط من إنقاذ فاطمة من البحر، وجدت نفسها أمام تحدٍّ جديد لم يكن في الحسبان. في صباح الثالث من سبتمبر 2024، وبينما كانت لا تزال تحت المراقبة في المستشفى الجامعي بسبتة، باغتتها آلام المخاض قبل موعدها المتوقع. الأطباء، الذين تابعوا حالتها منذ دخولها الطوارئ، رجّحوا أن الإرهاق الحاد الذي أصاب جسدها خلال السباحة، عجّل بهذه الولادة المبكرة.

داخل جناح الولادة، كانت الممرضة ماريا جارسيا – التي كانت ضمن الفريق الذي استقبلها ليلة الإنقاذ – تمسك بيدها وتهمس بالإسبانية: “قوة الأم لا حدود لها”. في الغرفة غمرها ضوء أبيض ساطع، امتزجت رائحة المعقم بصفير أجهزة المراقبة، بينما كانت أنفاس فاطمة تتسارع مع كل تقلص. دقائق ثقيلة مرت قبل أن يعلو صوت بكاء وليدها الأول. دمعت عيناها، وابتسمت وهي تضم صغيرها إلى صدرها. أسمته “إسلام”.

فاطمة، اللاجئة الجزائرية التي خاضت البحر وهي في شهرها الثامن، تحمل رضيعها «إسلام» بين ذراعيها أثناء حديثها مع فريق قناة RTVE الإسبانية في مركز استقبال المهاجرين بسبتة، حيث تروي تفاصيل رحلتها المحفوفة بالمخاطر.
فاطمة، تحمل رضيعها «إسلام» بين ذراعيها أثناء حديثها مع قناة RTVE الإسبانية في مركز استقبال المهاجرين بسبتة، حيث تروي تفاصيل رحلتها المحفوفة بالمخاطر

خارج أسوار المستشفى، كانت قصتها تجد طريقها سريعًا إلى الصفحات الأولى ونشرات الأخبار. في اليوم نفسه، تصدرت صورتها وهي تحتضن رضيعها الصفحة الأولى لصحيفة El Faro de Ceuta بعنوان: “من كاستييخوس إلى سبتة… أم تخوض البحر لتمنح طفلها مستقبلًا”. وفي نشرة الأخبار المسائية، بثّت RTVE تقريرًا قصيرًا أرفقته بلقطات من عملية إنقاذها، وأعادت فيه تصريحاتها الأولى: “كنت أعلم أننا سنصل”.

حتى داخل المستشفى، تحولت القصة إلى حديث العاملين. الممرضة كارمن لوبيز قالت لصحيفة El País: “لم نصدق أن امرأة في وضعها استطاعت الوصول حية… ولادتها كانت لحظة امتنان للجميع هنا”. وفي مركز استقبال المهاجرين في سبتة (CETI) الذي استقبلها لاحقًا، أطلق الموظفون على رضيعها لقب “نور المركز”، واعتنوا به كأحد أبنائهم.

لكن خلف هذه اللحظة الإنسانية والإعلامية، ظل الواقع قاسيًا. المركز كان يضم أكثر من 800 شخص في حين أن سعته الرسمية لا تتجاوز 512، ما يعني أن رحلة فاطمة لم تنته بعد، بل بدأت فصلًا جديدًا مليئًا بالتحديات القانونية والاجتماعية.

المدينة.. تجمع العابرين وتفرقهم

بعد أيام قليلة من ولادة “إسلام”، كان هشام، زوج فاطمة ووالد الطفل، يخوض مغامرته الخامسة لعبور البحر سباحة نحو سبتة. 4 محاولات سابقة انتهت بإعادته إلى المغرب، لكن هذه المرة، في أحد أيام العبور الكبيرة نحو شاطئ تاراخال، نجح أخيرًا في الوصول مع مئات آخرين، وفق ما نقلته منصة InfoMigrants.

في جولة هادئة بالقرب من مركز استقبال المهاجرين بسبتة، تسير فاطمة وزوجها هشام وهما يدفعان عربة طفلهما «إسلام».
في جولة بالقرب من مركز استقبال المهاجرين بسبتة، تسير فاطمة وزوجها هشام وهما يدفعان عربة طفلهما «إسلام». (المصدر: RTVE – المؤسسة الوطنية الإسبانية للإذاعة والتلفزيون)

لكن النجاح لم يكن نهاية معاناته. بخلاف فاطمة وطفلها اللذين حصلا على مكان في مركز استقبال المهاجرين بسبتة (CETI) بفضل وضعها الصحي، لم يجد هشام مأوى داخل المراكز المؤقتة المزدحمة، فنام أيّامًا في الشارع، في مشهد يلخص المفارقة المؤلمة داخل العائلة نفسها: ثلاثة أشخاص عبروا البحر على أمل حياة أفضل، لكنهم وجدوا أنفسهم على ضفتين مختلفتين من الرعاية.

في CETI، كانت فاطمة تحاول التأقلم مع واقع جديد. الغرفة التي حصلت عليها بدت فاخرة مقارنة بالبعض ممن اضطروا للنوم في خيام أو على الأرصفة القريبة، لكن الاكتظاظ ظل واقعًا ضاغطًا. وبحسب شهادات عدد من الموظفين المحليين، كانت القدرة الاستيعابية للمركز قد تجاوزت حدّها منذ أسابيع، ما دفع الإدارة لتدوير الأسرّة وتقييد مدة البقاء في غرف النوم”.

وراء أسوار CETI، كان البحر على مرمى البصر، يذكّر الجميع بالطريق الذي جاءوا منه، وبالثمن الذي دفعه من لم ينجُ. بيانات InfoMigrants تُظهر أنه بين يوليو وسبتمبر 2024 ارتفع عدد المهاجرين الذين دخلوا سبتة سباحة بنسبة تجاوزت 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، فيما لقي واحد من كل 15 شخصًا حتفه أثناء المحاولة، وفق إحصاءات منظمة Caminando Fronteras.

لكن سبتة ليست مجرد معبر للهاربين من الفقر أو النزاعات. إنها أيضًا عقدة سياسية بين المغرب وإسبانيا، تحكمها اعتبارات الأمن والهجرة والدبلوماسية. ففي مايو 2021، شهدت المدينة واحدة من أكبر الأزمات الحدودية حين عبر نحو 8,000 مهاجر خلال يومين فقط، بينهم مئات القاصرين، ما دفع مدريد إلى نشر الجيش على الشواطئ وتعليق بعض التعاون الأمني مع الرباط مؤقتًا.

الحرس المدني الإسباني يعتقل مهاجرين حاولوا العبور السباحي إلى سبتة. المصدر: RTVE
الحرس المدني الإسباني يعتقل مهاجرين حاولوا العبور السباحي إلى سبتة. (المصدر: RTVE)

على الشاطئ نفسه الذي قطعت فاطمة مياهه، يتقاطع عالمان متناقضان: عالم الحالمين بمستقبل جديد، وعالم الحراس الذين أوكلت إليهم مهمة إغلاق الأبواب. الحرس المدني الإسباني يسير دوريات بحرية وبرية على مدار الساعة، مدعومًا بتقنيات المراقبة الحرارية والكاميرات الليلية، بينما يظل البحر نفسه أكبر متواطئ مع المهاجرين حين يهبط الضباب أو تنخفض سرعة الرياح.

بالنسبة للسلطات الأوروبية، تمثل سبتة نقطة ضغط حدودية يجب التحكم فيها بكل الوسائل الممكنة. لكن بالنسبة للعابرين، هي عتبة الأمل.. وربما الفرصة الأخيرة. فاطمة كانت واحدة من القلة الذين وصلوا، لكن خلف قصتها مئات الحكايات التي لم تكتمل، بعضها توقف عند الضباب، وبعضها الآخر غاب مع الموج.

من نزاع قديم إلى أزمات حديثة: وجه سبتة المعقد

سبتة ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل قصة عمرها قرون. منذ القرن الخامس عشر، وهي مدينة تحت السيطرة الإسبانية، لكن المغرب يعتبرها أرضا محتلة، وهذا الصراع القديم ظل ينسج خلفية التوتر التي تعيشها المدينة حتى اليوم.

وبناء على هذا التاريخ المشحون، تتفاعل سبتة اليوم مع موجات هجرة متزايدة وأزمات معقدة. ففي عام 2024، سجلت السلطات الإسبانية نحو 64,000 محاولة وصول غير نظامية، بزيادة تقارب 12.5% مقارنة بالعام السابق. كما برز ارتفاع ملحوظ في أعداد القاصرين غير المصحوبين، حيث وصل عددهم إلى نحو 570 قاصرًا خلال الأشهر الأولى من 2025، مما شكل عبئًا كبيرًا على أنظمة الحماية والاستقبال.

يظهر في الصورة عنصر من الحرس المدني الإسباني وموظف من فرق الطوارئ يرافقان مهاجرين قاصرين وصلوا سباحة إلى جيب سبتة.
(المصدر: موقع Infomigrants، المنصة الإخبارية المتخصصة في قضايا الهجرة
يظهر في الصورة عنصر من الحرس المدني الإسباني وموظف من فرق الطوارئ يرافقان مهاجرين قاصرين وصلوا سباحة إلى جيب سبتة. (المصدر: Infomigrants، منصة إخبارية متخصصة في قضايا الهجرة)

استجابة لهذه الضغوط، ضاعفت إسبانيا طاقتها الاستيعابية في مراكز استقبال طالبي اللجوء من حوالي 1,920 مكانًا عام 2015 إلى أكثر من 34,000 في منتصف 2025، مع تخصيص دعم مالي كبير لتوسيع خدمات الرعاية. رغم ذلك، لا تزال الأعداد تتجاوز أحيانًا القدرة الاستيعابية.

على المستوى الوطني، أطلقت الحكومة خطة نقل آلاف القاصرين من جزر الكناري وسبتة إلى مناطق مختلفة داخل البر الإسباني، في محاولة لتخفيف الضغط على المراكز الحدودية، مع اعتماد معايير ديموغرافية واقتصادية في التوزيع ودعم مالي يزيد على 100 مليون يورو.

إضافة إلى ذلك، أقرت مدريد في نوفمبر 2024 إصلاحًا شاملًا لتسوية أوضاع نحو 300,000 مهاجر غير نظامي خلال ثلاث سنوات، بهدف تحسين ظروف العمل، وتعزيز الاندماج الاجتماعي، وتقوية الروابط العائلية. ويُنظر إلى هذا التحرك كجهد لموازنة السياسات في ظل تزايد أعداد المهاجرين الباحثين عن حياة أفضل في أوروبا.

مركز إيواء المهاجرين بسبتة يصل "مرحلة الانفجار" و200 مهاجر ينامون بالعراء
تحت ضغط أعداد قياسية، مركز إيواء المهاجرين في سبتة يتجاوز طاقته، فيما ينام أكثر من 200 شخص بلا مأوى. (المصدر: صحيفة El Faro de Ceuta)

ورغم انخفاض نسبي في محاولات الوصول عبر البحر بنسبة 31% في النصف الأول من 2025 مقارنة بالفترة نفسها من 2024، تبقى سبتة بؤرة محورية لتدفقات الهجرة، جسرًا بين القارة الأفريقية وأوروبا، وحلقة رئيسية في سلسلة تحديات إنسانية وسياسية معقدة تجمع بين رغبة الأفراد في الهجرة وحرص الأمن الأوروبي على ضبط الحدود.

هذه الأرقام والسياسات تكشف جزءًا من المشهد الذي تعيشه فاطمة وعائلتها، إذ أن عبور البحر ما هو إلا بداية لسلسلة من الاختبارات داخل النظام الأوروبي، حيث تحدّد الحدود القانونية والاجتماعية مصيرهم وأحلامهم.

ما بعد الوصول… حدود أخرى في انتظارها

من نافذة غرفتها في CETI، كانت فاطمة تراقب البحر كل صباح. لم تعد ترى فيه نفس العدو الذي كاد يبتلعها، بل صفحة تذكرها بالطريق الذي عبرته وبالثمن الذي دفعته. تحمل طفلها “إسلام” على ذراعها، بينما ذراعها الأخرى تستند إلى حافة النافذة، تتأمل الأفق حيث يتلاشى الضباب ببطء.

على الورق، ما زالت فاطمة “طالبة لجوء” تنتظر نتيجة طلبها، وهي عملية قد تمتد شهورًا أو حتى سنوات، وفق النظام الإسباني. خلال هذه الفترة، لا يُسمح لها بمغادرة سبتة بحرية إلى البر الإسباني، ما يجعلها تشعر أحيانًا أن المعبر الذي اجتازته كان مجرد انتقال من حدود مائية إلى حدود من نوع آخر.

يظهر في الصورة مبنى مركز إيواء المهاجرين (CETI) في مدينة سبتة الإسبانية، خلال أعمال تطوير للبنية التحتية بتمويل من الاتحاد الأوروبي.
(المصدر: موقع Ceuta Actualidad، صحيفة محلية إسبانية تغطي أخبار المدينة وقضايا الهجرة)
يظهر في الصورة مبنى مركز إيواء المهاجرين (CETI) في مدينة سبتة. (المصدر: موقع Ceuta Actualidad، صحيفة محلية إسبانية)

لكنها تعرف أن قصتها لم تعد ملكها وحدها. فخلال أسابيع قليلة، صارت رمزًا صغيرًا في حوار أكبر حول الهجرة على حدود أوروبا، ووجدت صورتها طريقها إلى شاشات التلفزة ومواقع الأخبار الدولية. بالنسبة للبعض، كانت مثالًا على الشجاعة والإصرار. وبالنسبة لآخرين، كانت وجهًا جديدًا في جدل قديم حول سياسات الهجرة والحدود.

في المساء، حين ينام الصغير على صدرها، كانت تغمض عينيها وتتخيل لحظة وصولها يومًا إلى مدريد أو برشلونة، وهي تسير بين الشوارع دون خوف أو قيود. لكنها تعرف أن هذا الحلم معلّق على قرار تمنحه أو تمنعه مكاتب الهجرة في مدريد، حيث لا تعرف حتى ملامح من سيتولى ملفها.

وفي ختام حديثها لقناة TVE الإسبانية، قالت بثقة هادئة وكأنها تلخّص رحلتها كلها: “لو عاد بي الزمن، سأفعلها مجددًا. هنا على الأقل، سيكبر إسلام وهو إنسان. في بلدي، لم أكن أملك شيئًا لأقدّمه له”.

spot_imgspot_img