spot_img

ذات صلة

جمع

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

  في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط...

أن تكوني إفريقية في زمن الحرب.. سردية الناجيات السودانيات

في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، جلست "ش....

أثمن من نوبل.. نجوجي واثينجو حين تصمت الجوائز وتتحدث أفريقيا بلغتها

لو كنّا نحفظ أسماء كتّاب القارة كما نحفظ روائيي...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

 

في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط اليومية، ينمو مشهد موسيقي بديل تقوده فتيات قرّرن الوقوف في وجه التحيز الاجتماعي، عبر وسيلة ربما لم يتوقعها أحد: الموسيقى الإلكترونية.

في نادي “كايرو جاز” بالعاصمة المصرية القاهرة، وقبل منتصف كل ليلة ثلاثاء، يتجمع العشرات من محبي الموسيقى الإلكترونية لحضور حدث ينتظرونه بفارغ الصبر: عرض فني تقدمه “دي جي يولاندا”. خلال السنوات الأخيرة، شهد هذا النادي العريق وعدد قليل من الأماكن الليلية الأخرى في العاصمة المصرية ظاهرة غير مسبوقة: ظهور فتيات “دي جي” أمام جمهور يتزايد شبابه. على حلبة الرقص، يطلق شباب القاهرة العنان لأنفسهم على إيقاع الموسيقى الجديدة والبديلة التي تقدمها تلك الفتيات. قد يبدو المشهد عاديًا، لكنه يمثل ثورة صغيرة في المجتمع المصري المحافظ.

ما يحدث في تلك الليالي الصاخبة ليس مجرد رقص وهروب مؤقت من قسوة الواقع، بل هو مقاومة ناعمة، وأحيانًا صاخبة، ضد مجتمع ما زال يحاصر النساء بأطر نمطية. في مصر، حيث يهيمن الذكور على المشهد الموسيقي، ظهرت يولاندا ومعها أخريات، ليرسمن ملامح مشهد جديد، أكثر حرية، وأكثر أنوثة.

“خلال السنوات الخمس الأخيرة، ازداد عدد الفتيات اللواتي يعملن كـ دي جي”، تقول يولاندا بفخر، “هناك الآن جيل جديد يحاول منافسة الرجال في هذا المجال”. هي لا تذكر ذلك كإنجاز شخص فقط، بل كتحول جماعي في وعي الفتيات اللواتي لم يعدن ينتظرن الإذن لاكتشاف ذواتهن.

من الإنترنت إلى المسارح


بدأت يولاندا مسيرتها كـ”دي جي” في مصر عام 2017، بعد خبرة امتدت 10 سنوات في مجال الموسيقى وتنظيم الفعاليات. “اكتشفت شغفًا في داخلي وأردت أن أصبح “دي جي” محترفة. تعلمت في البداية من الإنترنت ومن خلال محترفين محليين. هناك تصور سلبي في المجتمع المصري تجاه الفتيات اللواتي يعملن في الحفلات، لكنني كنت محظوظة بدعم عائلتي وأصدقائي لأصبح فنانة ‘دي جي'”.
في غضون خمس سنوات فقط، تمكنت يولاندا من صنع اسم لنفسها في المشهد الموسيقي الأندرجراوند والإلكتروني. يتجمع المئات من الناس خصيصًا لمشاهدة عروضها في نوادي مثل “ذا تاب”، “نادي القاهرة للجاز”، “أولتر” وغيرها. وإلى جانب مصر، تسافر الشابة المصرية لإحياء فعاليات في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

تزامن نجاح يولاندا مع تحول كبير في المشهد الموسيقي المصري. فقد بدأت أماكن عديدة في توفير مساحة لفنانات “الدي جي” لتقديم موسيقاهن، وهو أمر أصبح ممكنًا بفضل إقبال الأجيال الجديدة على هذه الموسيقى البديلة. توضح يولاندا: “النوادي الليلية تمنحنا هذه الفرصة لأنها تدرك أن الجيل الجديد يريد اكتشاف موسيقى جديدة، وخاصة الإلكترونية منها، وأنه يتأثر بشدة بالموسيقى الأجنبية”.
ساعدت أيضًا وسائل التواصل الاجتماعي، مثل إنستغرام وغيرها، الفتيات على التعريف بأنفسهن والعثور على جمهور ينجذب إلى هذه الموسيقى البديلة المنتجة محليًا. وتضيف يولاندا: “اليوم، يأتي عدد متزايد من الشباب، فتيات وفتيان، خصيصًا للاستماع والرقص على الموسيقى التي نصنعها”.

محاولة الخروج إلى الشارع


لكن ليس الجميع قادرًا على دخول هذه النوادي الخاصة. تقول الفنانة دنيا شهدي، وهي دي جي أخرى، إن الفن يجب أن يتحرر من القيود الطبقية. “النوادي الليلية غالبًا ما تكون مغلقة على الطبقة الغنية”، تؤكد، “لكنني أريد أن أقدّم موسيقاي في الشوارع، في الحدائق، في المساحات العامة التي ينتمي لها الناس العاديون”.
هكذا، اختارت دنيا أن تخرج بالموسيقى إلى الهواء الطلق. تنظم حفلات في المنتزهات وعلى ضفاف النيل، وتُعلن عنها على وسائل التواصل الاجتماعي، تقول “لا أريد جمهورًا يأتي فقط لقضاء وقت ممتع، بل جمهورًا يحب هذا النوع من الفن ويريد الوصول إليه”.

لكن أن تكوني امرأة، وأن تقودي حفلاً موسيقيًا إلكترونيًا في الشارع، وسط مجتمع محافظ، هو قرار محفوف بالمخاطر. تتحدث دنيا عن مضايقات متكررة: “في بعض الأحيان، تتدخل الشرطة، أو يقطع السكان الكهرباء احتجاجًا على ما نفعله، باعتباره غير لائق أو غير أخلاقي”.
في إحدى المرات عام 2020، اضطرت إلى إنهاء حفلتها فجأة بعد أن قام سكان الفيلا المستأجرة بطرد الحضور وقطع الكهرباء. تؤكد دنيا “إنها معركة يومية ضد مجتمع أبوي يرى فينا خطرًا يجب السيطرة عليه”.

نساء في مرمى القمع الرقمي


لكن القضية لا تنتهي عند حدود النوادي أو الحدائق. تشير انتصار السعيد، مديرة “مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون”، إلى أنه “منذ ثورة 2011، تتزايد الفجوة بين المجتمع والجيل الجديد. فمن جهة، لدينا شباب يحاولون احتلال الفضاء العام والتعبير عن أنفسهم بحرية وبطريقتهم الخاصة، بينما يكسرون العديد من المحرمات. ومن جهة أخرى، لدينا مجتمع ودولة راكدة، يرى كل فعل غير مألوف من هذا الجيل كتهديد لتدمير المجتمع المصري”. 

هذا الصراع والصدام داخل المجتمع له عواقب سلبية على الفتيات، إذ يُعتقل سنويًا عدد من الفتيات بتهم فضفاضة مثل “الفجور” أو “الإخلال بقيم الأسرة المصرية”. ففي أغسطس الجاري، شنت السلطات حملة ضد مؤثرات على تطبيق “تيك توك”، اتُهمن بانتهاك الأخلاق العامة، بينما تستند هذه الحملات غالبًا إلى بلاغات من محامين يبحثون عن الشهرة، ويغازلون المزاج المحافظ.

وفي يونيو الماضي، ألقت قوات الأمن القبض على راقصة شهيرة بتهمة عرض فيديوهات خادشة للحياء العام والتعدي على القيم الأسرية.
وفي أبريل 2022، قضت محكمة مصرية بالسجن على نجمة التيك توك، حنين حسام، لمدة ثلاث سنوات وحوكمت 11 فتاة أخرى، بتهمة استغلال فتيات مقابل المال عبر منصات مشاركة الفيديو.

إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات قد وفرت مساحة للتعبير للفتيات في المجتمع المحافظ، فقد أصبحت أيضًا أدوات للقمع ضدهن. تشرح انتصار السعيد: “وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تيك توك وإنستغرام، فتحت الفضاء العام للفتيات، لكنها وضعتهن أيضًا تحت الأضواء، وبالتالي جعلتهن أكثر ضعفًا. اليوم، يتم الهجوم على هؤلاء الفتيات وانتقادهن بانتظام بسبب أنشطتهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبسبب هذه الانتقادات يتم اعتقالهن من قبل السلطات. لسوء الحظ، لا تزال التقاليد مهيمنة في مصر، وما زالت الفتيات يعانين لممارسة أنشطة تعتبر عادية في مجتمعات أخرى”.

spot_imgspot_img