spot_img

ذات صلة

جمع

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

  في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط...

أن تكوني إفريقية في زمن الحرب.. سردية الناجيات السودانيات

في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، جلست "ش....

أثمن من نوبل.. نجوجي واثينجو حين تصمت الجوائز وتتحدث أفريقيا بلغتها

لو كنّا نحفظ أسماء كتّاب القارة كما نحفظ روائيي...

حين ابتلع البحر حلم عدّاءة الحارة الخامسة… عن هجرة سامية يوسف التي لم تكتمل


كانت تركض، لا لتسبق أحدًا، بل لتسبق واقعًا يطاردها: الحرب، الفقر، والقيود المفروضة على جسدها كامرأة. وبينما كان العالم يصفّق للعدائين في أولمبياد بكين 2008، كانت سامية يوسف عمر تركض وحدها. تلهث خلف حلمٍ هش، يكاد يسقط منها مع كل خطوة. وبعد 4 سنوات، حين لم يعد هناك مضمار لتجري عليه، قررت أن تعبر البحر، فابتلعها.
لم تكن سامية مجرد عداءة صومالية ناشئة، بل رمزا لموهبة قاومت ظروفًا لا تشبه شيئًا من معايير الرياضة الحديثة. تدربت على طرقاتٍ مليئة بالركام في مقديشو، هربت من تهديدات القتل، حلمت أن تصل إلى لندن للمشاركة في أولمبياد 2012، لكنها وصلت فقط إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، وغرقت في أبريل 2012، على متن قارب انطلق من ليبيا نحو إيطاليا، وفق ما أوردته تقارير إعلامية إيطالية وأكدته اللجنة الأولمبية الوطنية في الصومال لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC).

النشأة والطفولة: بين الحرب والحلم

في قلب الحرب الأهلية، حيث لا مكان للأحلام، ولدت سامية يوسف عمر في 25 مارس 1991 بمقديشو، عاصمة الصومال. أصوات القصف والدمار كانت تمزق صمت السماء، لكن وسط هذا الخراب، كان هناك حلم يتوهج في قلب طفلة صغيرة، بأن تصبح رياضية، رغم كل ما يحيط بها من ظلام.
“كنت أجري في الشوارع المدمرة، حيث الحفر والمخاطر، ولكن كنت أؤمن أن كل خطوة تقربني من حلمي”.. هكذا كانت سامية تتحدث عن أيامها في مقديشو، حيث كانت تجري في شوارع مليئة بالدمار، لكن هذه الخطوات كانت تشكل طريقا نحو الأمل بالنسبة لها.
نشأت سامية في عائلة رياضية، إذ كانت والدتها أحد الأسماء اللامعة في المجال الرياضي، ورغم أن المجتمع الصومالي كان يراه تحديًا للتقاليد أن تمارس الفتيات الرياضة، إلا أن حلمها كان أقوى من هذه القيود.
لكن الحياة، التي كانت تستمر في قسوتها، أخذت من سامية في عام 2006 ما كان أغلى ما تملك. فقدت والدها وعمها في قصف عنيف استهدف سوق بكارا، أكبر أسواق مقديشو. كانت تلك اللحظة التي غيرت حياتها، لكنها لم تقف عندها؛ فبين الحزن والفقد، شعرت أن الرياضة هي السبيل الوحيد للنجاة.

البداية: السباق وسط الحطام

في شوارع مقديشو التي أنهكها الدمار، كانت سامية تجد في كل زقاق ميدانًا للركض. لم تكن هناك مضامير رسمية، ولا فرق تدريب، ولا دعم حكومي. وحدها والدتها كانت السند الأول، تؤمن بحلمها وتشجعها رغم الخوف من التقاليد والنظرة السائدة للرياضة النسائية.
بدأت سامية تشارك في بطولات مدرسية محلية، كانت بسيطة ومتواضعة، لكنها كانت ترى فيها أولى خطواتها نحو العالم. كانت سرعتها الطبيعية وإصرارها اللافت يميزانها عن غيرها. فازت سامية في عدة سباقات محلية داخل مقديشو.
بحسب تقرير “الجارديان”، كانت سامية تتدرب أحيانًا على ملاعب متهالكة أو في طرقات خطرة مكشوفة للنيران. لم تكن قادرة على ارتداء ملابس رياضية مناسبة، وكثيرًا ما واجهت مضايقات لفظية وحتى تهديدات مباشرة من جماعات مسلحة كانت ترى في ممارستها للرياضة “تحديًا للقيم الدينية والاجتماعية”.
لكن سامية لم تتراجع. كانت تقول لكل من يسألها عن سبب تمسكها بالركض رغم المخاطر: “الركض هو الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر أنني ما زلت أعيش”.

الطريق إلى الحارة الخامسة

مع تكرار فوزها بالسباقات المدرسية المحلية، لاحظ مسؤولو اللجنة الأولمبية أداءها، وقرروا ضمها إلى برنامج إعداد الرياضيين الصوماليين للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية، رغم أن هذا البرنامج كان يفتقر لكل الإمكانيات المعروفة في بقية دول العالم. التدريب كان عشوائيًا، المعدات شبه معدومة، والموارد شحيحة.
ورغم كل ذلك، وجدت سامية في هذا الانضمام بارقة أمل، فرصة للخروج من واقعها القاسي ولو مؤقتًا. دعمتها والدتها بقوة، فكانت تصحبها أحيانًا إلى أماكن التدريب وتحثها على تجاهل الانتقادات والمضايقات.
لم تكن سامية تدرك أن هذه البداية المتواضعة ستقودها بعد أشهر إلى أكبر مسرح رياضي في العالم. حين جاءها الخبر الرسمي بأنها ستشارك في أولمبياد بكين، لم تصدقه في البداية. لم يكن هناك إعلان احتفالي، ولا كاميرات، فقط رسالة مقتضبة من أحد مسؤولي اللجنة تُبلغها بأن عليها الاستعداد للسفر.
بدأت تنهال عليها الأسئلة التي لم تجد لها إجابة: ماذا يعني أن أركض باسم بلد لا يملك مضمارًا؟ ماذا سأفعل وسط عداءات عالميات؟ وهل يكفي الحلم وحده لأكمل السباق؟
رغم ذلك، جهّزت حقيبتها الصغيرة، وودّعت والدتها على باب البيت، وركبت الطائرة لأول مرة في حياتها، حاملةً معها ما يكفي فقط للركض: جسدها النحيل، وعزيمة فتاة لم ترضخ لما أرادته الحرب منها.

أولمبياد بكين 2008: ضوء عالمي في سماء الحرب

في ظهيرة حارة داخل استاد عش الطائر الشهير في بكين، اصطفّت العدّاءات استعدادًا لسباق 200 متر ضمن التصفيات الأولية. كانت سامية يوسف عمر تقف في الحارة الخامسة، بجسدها النحيل وملابسها الرياضية البسيطة، مقارنةً بزميلاتها اللواتي يرتدين أزياء احترافية ويحملن أسماء دول عظمى.
عندما دوّى صوت طلقة البداية، انطلقت سامية بكل ما تملك من طاقة.
خلال الأمتار الأولى، بدأت الفجوة تتسع بوضوح، وسرعان ما أصبحت الأخيرة بفارق كبير. لكنها لم تتوقف. لم تنظر خلفها أو إلى مدرجات تملأها عيون تراقبها بدهشة. واصلت الركض، متعثرة قليلاً، تقاوم إرهاقًا جسديًا شديدًا.
وصف مراسل BBC الذي كان حاضرًا المشهد قائلًا: “كان جهدها واضحًا في كل خطوة. لم يكن هناك منافسة حقيقية بينها وبين الأخريات. كان هناك صراع داخلي، وإصرار على بلوغ النهاية مهما كان الثمن”.
مع اقترابها من خط النهاية، دوّت التصفيقات في جميع أنحاء المدرجات، في مشهد نادر يُخصص عادةً للفائزين فقط. ابتسمت سامية ابتسامة عريضة، وأكملت السباق رغم الإجهاد الواضح.
قالت لاحقًا لرويترز: “عندما سمعت التصفيق، شعرت أنني فزت بطريقتي الخاصة”. صحيح أن سامية لم تتأهل إلى الأدوار التالية، لكنها ربحت احترام العالم. بحسب تقرير نشرته صحيفة الجارديان، اعتبرها كثيرون “رمزًا لروح الألعاب الأولمبية النقية”.

العودة إلى الجحيم

بعد مشاركتها في أولمبياد بكين 2008، عادت سامية يوسف عمر إلى مقديشو، لكنها لم تجد استقبال الأبطال. كانت البلاد غارقة في الحرب الأهلية، وسيطرة حركة الشباب المتشددة كانت تمتد إلى مناطق قريبة من حيها، حيث يُمنع على النساء ممارسة الرياضة. وبدلًا من دعم أو احتواء، بدأت سامية تتعرض لتهديدات مباشرة، بسبب ظهورها العلني في محافل رياضية دولية بزي رياضي لا يتماشى مع القيود التي فرضتها تلك الجماعات.
بحسب تقرير لقناة الجزيرة، اضطرت سامية للتخلي عن التدريب في ملعب “كونيس” المعروف، بعد أن طاردها مسلحون، لتلجأ إلى التدريبات في أزقة الحي صباحًا وفي الخفاء.
في عام 2010، قررت مغادرة الصومال نهائيًا إلى إثيوبيا. كانت أديس أبابا أقرب وجهة آمنة نسبيًا، ومقرًا مهمًا لألعاب القوى في القارة. هناك، حاولت الاندماج في منظومة التدريب، لكن العقبات لم تكن قليلة؛ لم يكن مسموحًا لها بالانضمام إلى المنتخب الإثيوبي، كما أن الموارد المتاحة لها كانت محدودة.

في مقابلة أجرتها معها الصحفية الألمانية كورينا مولر عام 2011 ونُشرت لاحقًا في كتابها “Die Läuferin (العداءة)، تحدثت سامية عن تلك الفترة قائلة: “في إثيوبيا كنت أعيش على أمل. لم أكن أملك الكثير، لكن كنت أركض كل يوم. الركض كان الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر أنني ما زلت حية”.
ورغم أنها كانت تتدرب دون مدرب مختص، ووسط إمكانات محدودة، فإن حلم الوصول إلى أولمبياد لندن 2012 لم يفارقها. في إثيوبيا، لم تكن الحياة أسهل، لكنها كانت – كما وصفتها – أقل خطرًا من “الركض تحت التهديد” في مقديشو.

الرحلة الأخيرة: من حلم لندن إلى قاع المتوسط

لم تكن إثيوبيا نهاية الطريق بالنسبة لسامية، لكنها كانت محطة فاصلة في رحلة مريرة. بعد شهور من التدريب المحدود في أديس أبابا، وبالرغم من نجاة مؤقتة من تهديدات حركة الشباب في مقديشو، ظل حلم الأولمبياد يقبع في قلبها كوهج لا ينطفئ. لكن سامية، التي اعتادت على محاربة الظروف القاسية، أدركت أن الوصول إلى أولمبياد لندن 2012 يتطلب أكثر من مجرد عزيمة. كان يتطلب بيئة تدريب احترافية، دعمًا ماديًا ومعنويًا، وهو ما لم يكن متاحًا.
في لقاء نادر مع الصحفية الألمانية كورينا مولر في إثيوبيا، قالت سامية: “لا أستطيع العودة إلى الصومال. لا يمكنني البقاء هنا. لا يوجد لي مكان، لكنني لا أريد أن أستسلم”. كانت كلماتها بمثابة صرخة في وجه الواقع الذي كان يخنق حلمها. كان الحلم الذي تعلقت به منذ أن كانت طفلة يواجه انهيارًا أمام عينيها، لكنها كانت مستعدة للمزيد من التضحية.
مع مرور الوقت، بدأت سامية تشعر بأن الطريق إلى لندن أصبح مسدودًا. فكرت في الهروب إلى أوروبا. كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، ومن حولها قصص الموت والغرق في البحر، لكن قلبها كان مليئًا بالأمل. كان البحر هو آخر أفق ممكن لها، ولم تكن تخشى المجهول بقدر ما كانت تخشى الاستسلام.
في أوائل 2012، غادرت إثيوبيا إلى السودان، ثم وصلت إلى ليبيا، حيث انتهى بها المطاف في أحد مراكز الاحتجاز التي يديرها المهربون. كانت تمضي أيامًا شاقة، تحاول خلالها الحفاظ على لياقتها بأبسط الطرق الممكنة، فتتدرب أحيانًا في ساحة صغيرة متربة، إن سمح الحراس بذلك. وبرغم المعاملة القاسية والظروف غير الآدمية، ظل في قلبها بصيص من الأمل، بأن هذه المعاناة ستفضي إلى فرصة جديدة.
وفي أبريل من العام نفسه، صعدت سامية إلى زورق مكتظ بالمهاجرين، أبحر من ليبيا باتجاه السواحل الإيطالية. لم تكن المرة الأولى التي تسمع فيها عن غرق المهاجرين، لكنها كانت تأمل أن تمر الرحلة بسلام. كان البحر هائجًا، والهواء مشحونًا بالخوف، لكن عينيها كانتا معلقتين على الأفق. في وقت لاحق، أعلنت السلطات الإيطالية غرق الزورق قبالة سواحل لامبيدوزا، دون تفاصيل كثيرة عن الضحايا. أما سامية، فلم تصل أبدًا.
في اللحظة التي اختفى فيها القارب في عمق البحر، اختفت سامية يوسف عمر، ومعها حلمها، الذي لم يكن مجرد سباق رياضي، بل كان معركة ضد واقع مرير، ضد قيود حاولت أن تسلب منها حلمها. كانت في الحادية والعشرين فقط، حين ابتلعها الموج وهي تطارد الحياة.
غرقها لم يكن النهاية الوحيدة لقصة، بل هو بداية لذكرى لا تنطفئ. سيظل صوت تصفيق العالم لها في أولمبياد بكين، حيث ركضت وحيدة ضد الرياح، بمثابة شهادة على أن الأبطال ليسوا أولئك الذين يحققون الانتصار، بل الذين لا يتوقفون عن السعي. في النهاية، سامية لم تصل إلى لندن، لكنها وصلت إلى قلوب كثيرين، وتركت خلفها سؤالًا لا يزال يركض بيننا: كم حلمًا آخر سيفقد طريقه ويغرق؟

spot_imgspot_img