“Help us, please, we’re going to die” — كانت هذه صرخات عشرة شباب لاجئين أُلقي بهم بعنف أمام سفينة الإنقاذ “ميديترانيا” الإيطالية في البحر المتوسط “المرعب”، قبل أن ينتفض طاقم السفينة محاولًا إنقاذهم، منعًا لأن يكتم قاع البحر “الأخرس” معاناتهم وعذاب أيامهم الأخيرة إلى الأبد.
الحادثة التي وقعت في 18 أغسطس الماضي ليست عادية، ككل مرة يعثر فيها أفراد الطاقم على مهاجرين غير شرعيين، لكنها واقعة سُجلت للمرة الأولى لخفر السواحل الليبي، وهو يلقي بالشباب أمام السفينة التابعة لمنظمة الإنقاذ الإيطالية “ميديترانيا”، لتؤكد تورطهم في تهريب المهاجرين إلى إيطاليا.
وقالت المنظمة في بيان: “المهرّبون الليبيون الذين ألقوا بعنف عشرة لاجئين شباب في عرض البحر أمام قارب إنقاذنا، بعد احتجازهم في معسكرات اعتقال، هم جزء من الجهاز العسكري الرسمي في طرابلس. لقد قمنا بتصويرهم وتتبع هوياتهم، ونحن نعرف من هم”.
وحسب المنظمة، تشير المقاطع المصوّرة إلى عناصر مسلحين على متن زوارق دورية ليبية، يرتدون أقنعة وبدلات عسكرية تحمل شارات الكتيبة 80 للعمليات الخاصة التابعة للواء 111، الذي يقوده نائب وزير الدفاع الليبي عبد السلام الزوبي.
في مشهد آخر، وخلال رحلة السفينة، فوجئ طاقمها بثمانية زوارق سريعة ومطاطية تقترب من جميع الجهات، لتبدأ في مطاردتها وقطع مسارها بتنفيذ مناورات خطرة حولها.
لم يفهم الطاقم السبب أو الهدف، فالزوارق لا تحمل إشارات رسمية، لكن أفرادها كانوا يرتدون الزي العسكري ومسلحين بالرشاشات والأسلحة الطويلة والمسدسات. ورغم تكرار طلبات التعريف بهويتهم، لم تصل أي إجابة. غير أن أحدها أظهر الخطوط الزرقاء والحمراء المميزة للإدارة العامة للأمن الساحلي (GACS)، المتهمة بارتكاب عمليات اعتراض عنيفة كثيرًا ما تنتهي بمآسٍ قاتلة ضد المهاجرين الفارين من ليبيا.
لساعات، طاردت القوارب السفينة، واقتربت منها مهددة وساخرة وملوحة بالإشارات، قبل أن يخرج أحد المسلحين كاميرا وصوّر السفينة وطاقمها. وعند الساعة الثامنة صباحًا، التُقطت رسالة عبر قناة الراديو 16 تقول: “ابتعدوا، هذه ليبيا.” لكن السفينة كانت تبحر في المياه الدولية، على بعد أكثر من 20 ميلًا من السواحل الليبية. ورغم محاولات التوضيح، جاء الرد الوحيد من القارب الرئيسي على شكل تهديد مباشر: “ابتعدوا.”
بعد أيام قليلة، سُجلت واقعة أخرى بإطلاق خفر السواحل النار لمدة 20 دقيقة على سفينة الإنقاذ أوشن فايكنغ التابعة لمنظمة SOS Méditerranée، لتصف الحادثة لوسيل غونييه، مسؤولة التواصل على متن السفينة، قائلة: “لأول مرة، نشعر بأننا كنا على وشك الموت”.
وتضيف الرواية أن خفر السواحل الليبي طالب السفينة عبر الراديو بمغادرة المنطقة، ووجه إهانات مباشرة للمترجم الناطق بالعربية. ورغم استجابة الطاقم وتحويل مسار السفينة نحو الشمال، استمر إطلاق النار بشكل مكثف.
اللافت أن الزورق الذي استُخدم في الهجوم تم تسليمه إلى السلطات الليبية عام 2023 من قبل الحكومة الإيطالية، في إطار برنامج دعم أوروبي مثير للجدل، ليفتح الباب أمام تساؤلات حول ماهية القوات الليبية المسؤولة عن تأمين الشواطئ، وتورطها في جرائم ضد الإنسانية.
حكم المليشيا
تشكل خفر السواحل الليبي عام 1970، لتولي إدارة مسألة الجمارك والموانئ، بشكل منفصل عن البحرية الليبية. أدى سقوط نظام معمر القذافي، وما تلاه من موجات هجرة، إلى محاولات إحياء هذا الجهاز في 2015، ولكن بهدف آخر: منع المهاجرين الذين يحاولون اتخاذ ليبيا نقطة إنطلاق إلى أوروبا، من الوصول إلى الجانب الآخر من البحر المتوسط.
جاء إحياء هذا الجهاز، بدعم من الاتحاد الأوروبي، الذي أقر في عام 2015، مساعدات بقيمة 455 مليون دولار لهذا الجها. كما تضمنت الإجراءات، تدريب أفراده على يد قوات أوروبية وتزويده بالأسلحة والمعدات المختلفة، منها فرقاطتين من إيطاليا، أكثر الدول المتضررة من موجات الهجرة.
تركيبة خفر السواحل الليبي، خصوصًا في الغرب حيث توجد حكومة الوحدة المدعومة دوليًا، ليست كغيرها في الدول المجاورة؛ فهي تتكون من ميليشيات مسلحة تسيطر كل منها على منطقة معينة، فإحداها تفرض سيطرتها على شواطئ مصراتة، وأخرى على الزاوية.
كل ميليشيا تتبع شخصًا معينًا يتعاون مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، دون أن يكون للأخير سيطرة كاملة عليه أو على قواته، إذ يجمعهما فقط تقاسم المال والدعم المقدم من الاتحاد الأوروبي، لاسيما الحكومة الإيطالية منذ نحو عقد للتصدي للمهاجرين.
تتصدر إيطاليا قائمة الدول الأوروبية في محاولة منع المهاجرين من الإبحار نحوها، إذ وقّعت مذكرة تفاهم في عام 2017 مع حكومة الوفاق حينها، وامتدت لاحقًا مع حكومة الوحدة الوطنية الحالية. المذكرة تضمن لليبيا مليارات، تُقدم عادة على هيئة تدريب لعناصر خفر السواحل أو زوارق ومعدات لهم، بالإضافة إلى أموال تُوزع بنسب متفاوتة على الحكومة والأجهزة التابعة لها.
تتضمن الاتفاقية، الموقعة في 2017، دعمًا ماديًا وفنيًا كبيرًا من إيطاليا إلى خفر السواحل الليبي. وقد مكّنت هذه المساعدة قوات خفر السواحل من اعتراض عشرات آلاف الأشخاص في البحر وإعادتهم إلى ليبيا، حيث يواجهون ظروف احتجاز لا إنسانية، وخطر التعرض للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، وفق تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش.
حولت هذه الأموال والتدريب، هذا التنظيم ليكون “كلب حراسة” بحري يمنع المهاجرين غير المرغوب فيهم في أوروبا. ساعد هذا الدور أيضا، قادة التنظيم في أن يكونوا نافذين في الدولة، وغير خاضعين للمحاسبة على جرائم يشتبه ارتكابها ضد مهاجرين في ليبيا، وعلى رأسهم أسامة نجيم، المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهم التعذيب والاخفاء القسري وانتهاكات حقوق إنسان ضد المهاجرين داخل مراكز احتجاز غير قانونية، وتسبب إطلاق سراحه في إيطاليا وإعادته إلى ليبيا بداية العام الجاري، في انتقادات واسعة للحكومة الإيطالية.
سفن الإنقاذ تخشى بلطجة خفر السواحل
المهاجرون ليسوا الضحية الوحيدة لهذه الميليشيا، ولكن كل من يحاول أن يمد لهم يد العون في البحر. توضح منظمة “هيومن رايتس ووتش، “قوات خفر السواحل الليبي تهدد أيضًا سفن الإنقاذ غير الحكومية التي تحاول إنقاذ الأشخاص وتعرضها للخطر. لكن اللافت هو استمرار الدعم الإيطالي، خاصة من حكومة ميلوني، عبر إقرارها قوانين وسياسات تقييدية، لا سيما مرسوم بيانتيدوزي، وتخصيص موانئ رسو بعيدة تُبعد سفن الإنقاذ عن وسط البحر المتوسط”.
كما طالبت منظمة أطباء بلا حدود السلطات الإيطالية بوقف عرقلة عمليات الإنقاذ في البحر وفرض العقوبات على سفن المنظمات غير الحكومية، كما دعت الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى الوقف الفوري للدعم المالي والمادي المقدم إلى خفر السواحل الليبي، والتوقف عن تسهيل الإعادة القسرية إلى ليبيا.
وفي الوقت نفسه، أكدت 42 منظمة إنسانية ومجتمع مدني، في رسالة إلى المفوضية الأوروبية، أنه “لا ينبغي تقديم الأموال الأوروبية لمنظمات تهاجم مواطنين أوروبيين وأشخاصًا منكوبين في البحر“، في إشارة إلى التمويل الأوروبي لخفر السواحل الليبي ومهاجمته لسفن إنقاذ أوروبية.
وشددت الرسالة على أن تمويل الاتحاد الأوروبي “مكّن وشرعن الانتهاكات“، مشيرة إلى أن أمين المظالم في الاتحاد الأوروبي أدان المفوضية هذا العام بسوء الإدارة، لرفضها الكشف عن تقييمات “عدم الإضرار” لمشاريعها في ليبيا.
ورغم المناشدات، أقر مجلس النواب الإيطالي في منتصف أكتوبر الماضي اقتراحًا تقدم به أعضاء من الائتلاف الحاكم بضرورة الاستمرار في اتباع “استراتيجية وطنية لمكافحة مهربي المهاجرين، ومنع المغادرة من ليبيا، بناءً على مذكرة عام 2017، والمضي قدمًا في تجديدها“، وهو ما حدث في 2 نوفمبر الجاري، بقرار من رئيسة الحكومة، جورجيا ميلوني، ليبدأ فصل جديد من الجرائم ضد المهاجرين والمنقذين.


