في زحمة الحياة على كورنيش النيل، يلتقي المارة بوجوه عديدة، بعضها مألوف، وبعضها تتجاهله العيون رغم حضوره. لكن هناك وجهًا معينًا لا يمكن تجاهله، وجه يروي قصص الشقاء بلا كلمات، وجه سالم، الذي يعيش على حافة كورنيش المعادي، ليس كمن جاء للاستمتاع، بل كمن فرضت عليه الأيام أن يصبح جزءًا من هذا المكان، أن يكون شاهدًا صامتًا على المدينة وحكاياتها. ما الذي جلبه إلى هنا؟ وما هي الحكايات التي حملها معه؟ بين شجاعة غير متوقعة ورفقة وفية، تكشف قصة سالم عن صمود إنساني لا يُستهان به، حياة متجددة على الرغم من كل شيء، حياة في طيّاتها معانٍ من الألم والأمل.
– رحلة سالم المأساوية
سالم ليس مجرد وجه يمر دون أن يُلاحَظ، فقد أصبح جزءًا من مشهدي اليومي على مدار 5 سنوات، وأنا أجري على الكورنيش. في صباحات عديدة، ألتقط مشاهد عابرة له، شخصٍ يجسد حياة مليئة بالتناقضات. أحيانًا أجده مستلقياً على العشب، غارقا في نومٍ عميق، وكأن الأرض هي وسادته والسماء غطاؤه. في مرات أخرى، أراه جالساً على مقاعد انتظار الحافلات، ينظر إلى البعيد وكأن عقله يجول في عوالم لا نراها. لكن أكثر ما يلفت انتباهي، هو تلك اللحظات التي أجده فيها يتأمل مياه النيل بصمت. كان يتأمل الكورنيش وكأنه يبحث عن أجوبة، أو ربما هاربا من واقعٍ بات يثقل على كاهله.
سالم هو ابن قرية صغيرة تحتضنها محافظة الدقهلية، نشأ وسط أسرة كبيرة تضم ثلاثة إخوة وأختين. كونه الأكبر بينهم، حُمِّل عبء إعالة الجميع بعد أن سلبه القدر والديه في حادث سير مأساوي. لم تكن الحياة سهلة على كاهله، بل كانت مليئة بالتحديات والصراعات. فبينما كان يسعى لتحقيق استقرار لعائلته، واجه سالم خيانة من أقرب الناس إليه، ولم يتبقَ له من ميراث أبيه سوى قطعة أرض صغيرة. كانت تلك البقعة تمثل أمله الأخير، الملاذ الذي يلجأ إليه مع إخوته بعد أن عصفت بهم الحياة وقست عليهم الظروف. لكن خيبة الأمل كانت تتربص به، حيث اختار أعمامه، الذين ظن أنهم سند له، أن ينتزعوا منه حتى هذا المأوى المتواضع، ليتركوه في دوامة من الهموم والخذلان. ومع انصراف خطيبته عنه، أصبح كمن فقد العالم كله دفعة واحدة. هذه الخيانات المتتالية شكلت شرخا عميقا في حياته، قاده إلى الهروب من عالمه القروي المتعب إلى عالم آخر، عالم على ضفاف النيل، حيث يجد في العزلة سلامًا مؤقتًا.
– الأمل في عزلة الكورنيش
على الرغم من قسوة الواقع التي تتجلّى في كل زاوية، لم تخلُ حياة سالم من لحظات شجاعة نادرة، تجعله يحس ببعض الأمان وبأن له دورا في هذا العالم. كان سالم يتذكر يوما صادف فيه مجموعة من الشبان كانوا يضايقون شابًا صغيرًا، فقد أزعجه المشهد لدرجة دفعته للتدخل. اقترب منهم بخطوات واثقة، وقف أمامهم بشجاعة، يصرخ فيهم بصوت قوي. كان يعتقد أن صوته لن يؤثر فيهم، لكنه فعل. تراجع الشبان دون أن ينبسوا ببنت شفة، واستطاع سالم أن ينقذ الشاب من أيديهم. شعر في تلك اللحظة بكرامة غريبة لم يذق طعمها منذ زمن طويل. ورغم أنه لم يكن يرى نفسه بطلا، إلا أن تلك اللحظات كانت تزرع بداخله شيئاً من الاعتزاز.
بعد ذلك، صار الناس في المنطقة يتحدثون عنه بإعجاب؛ يقول أحمد، أحد عمال النظافة الذين يمرون به يوميا: “سالم طيب ومش بتاع مشاكل بالعكس بيساعد الناس اللي حوليه، على قد ما يقدر”. هؤلاء الأشخاص الذين يرونه كل يوم، باتوا يرون فيه شيئا أكثر من مجرد رجل بائس. كان كأنه روح الكورنيش، موجود دائما، كما هو النيل دائم الجريان.
– أصدقاء من نوع خاص
لم تكن وحدة سالم شاملة؛ فقد وجد رفقة من نوع آخر. مجموعة من الكلاب الضالة كانت تأتيه ليلا، يتشارك معها جزءا من طعامه القليل. كان سالم يعاملها بلطف وتقدير، يعرف أنها مثله، كائنات لا مكان لها سوى هذا المكان. بدورها، كانت الكلاب تتصرف كحراسه الشخصيين، تشعر به إذا اقترب منه غريب، وتدافع عنه بشراسة إن تطلّب الأمر، وكأنها تعترف له بجميل غير منطوق.
الكلاب كانت بمثابة العائلة التي اختارته وأخذت على عاتقها حماية هذا الرجل الذي لا يجد مكانا يطمئن فيه سوى بين جموعها. يعلق حسن، أحد سائقي الحافلات، قائلًا: “سالم بيحب الكلاب اللي حواليه وكأنهم جزء من حياته، بتديله حتة من الراحة إللي مالقهاش في الدنيا”. هذه الحيوانات كانت تمنحه شيئا من الحنان غير المشروط، تواسيه دون أن تسأله عن ماضيه أو مستقبله.
– صراع البقاء: وجه آخر لاستغلال الضعفاء
سالم، الذي اعتاد العيش في ظل الكورنيش، لم يكن مجرد ضحية للظروف، بل أصبح فريسة لاستغلال الآخرين الذين يرون في بؤسه فرصة لكسب المال. في أحد الأيام، بينما كان يجلس على الرصيف، اقترب منه شاب يرتدي ملابس أنيقة، ودعاه إلى تصوير فيديو يظهر معاناته، ووعده بأنه إذا حقق الفيديو انتشارا واسعا، فسيعطيه مبلغا كبيرا. ارتسم على وجه سالم تعبير من الغضب الممزوج بالسخرية، اقترب من الشاب وانتزع الموبايل من يده بخفة، ثم قال بابتسامة مستفزة: “دلوقتي الفيديو هيجيب مشاهدات من السمك!” تجمد الشاب في مكانه، غير قادر على استيعاب ما حدث، بينما سار سالم مبتعدا بشعور من الرضا لم يعرفه منذ زمن.
ليس هذا فحسب، بل تعرض لموقف آخر حيث نزل رجل من سيارته الفاخرة وعرض عليه بيع كليته، متحدثا بنبرة غير مبالية، وكأن الحديث عن الأعضاء البشرية هو أمر عادي. قال له: “فقط تخيل كم ستكسب!”. وقف سالم ساكنًا، حدّق في الرجل بنظرة باردة وقال بهدوء مشوب بالتهديد: ” لو ما مشيتش من هنا مش هخلي فيك حتة في جسمك سليمة”. لم يكن الرجل يتوقع ردا كهذا، فتراجع بخطوات سريعة إلى سيارته، بينما بقي سالم يراقبه بحذر.
وأيضا، في إحدى زياراته إلى صيدلية قريبة لعلاج جرحه، تفاجأ سالم بالطبيب الذي قدم له العلاج. بدلا من التركيز على حالته الصحية، بدأ الطبيب يتحدث معه حول إمكانية بيع كليته، عارضا عليه مبلغا من المال. شعر سالم بالصدمة وهو يتأمل في انعدام الإنسانية لدى من يفترض بهم أن يساعدوه: “كنت فاكر إنك دكتور.. مش سمسار”. ترك الصيدلية بجرح جديد، لكنه أعمق بكثير من إصابته الجسدية.
كل هذه المواقف، رغم قسوتها، جعلت سالم يكتسب دروسا في كيفية التمسك بإنسانيته وسط عالم يفتقر إلى الرحمة. فقد أصبح أكثر وعيا بما يحدث حوله، وأدرك أنه حتى في أحلك الظروف، يجب عليه الدفاع عن نفسه وكرامته، مهما كان الثمن.
– من الرصيف إلى القلب: لحظات من التضامن
تتعدد المواقف التي يمر بها سالم مع المارة يوميا. في بعض الأيام، يقف أحدهم ليعطيه قطعة خبز أو بضع جنيهات، بينما يمر آخرون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر إليه. في إحدى الليالي، اقتربت منه امرأة مسنّة وقدمت له بطانية دافئة، تقول له بنبرة أمومية: “أنت زي ابني، دفي نفسك من البرد”. تلك اللحظات الصغيرة كانت تمنحه شعورا مختلطًا بين الراحة والألم؛ الراحة لأنه ليس منسيا بالكامل، والألم لأن تلك اللطفات العابرة تذكره بما يفتقده من دفء الأسرة والانتماء.
وفي يوم آخر، وقف شاب بجانبه لبرهة، ثم أعطاه معطفًا قديمًا دون أن ينطق بكلمة. لم يكن الشاب بحاجة لأن يشرح، فقد شعر سالم بالامتنان لهذا الكرم البسيط، لكنه فهم أيضا كيف يمكن للمرء أن يترك أثرًا كبيرًا دون كلمات.
تُشكِّل تلك اللحظات الإنسانية روابط غير مرئية في حياة سالم، تظهر كيف يمكن للتفاعل البسيط أن يضفي معنى جديدًا على وجوده. إذ كلما أبدى أحد المارة تعاطفًا، كان ذلك بمثابة تذكير له بأن الإنسانية لا تزال حاضرة في عالم يفتقر إلى الرحمة. على الرغم من الظلام الذي يحيط به، تُعدّ تلك المواقف بمثابة بارقة أمل، تُعزز في داخله الشعور بأنه ليس وحده في معركته من أجل الحياة.
وما بين ضوء النهار المتوهج وانحساره نحو الأفق، يعيش سالم حياة على ضفاف النيل، حياة تستحق التأمل، وتروي قصصًا من الصمود، والعلاقات غير المرئية التي نسجتها الصدفة. بطل لم يختر بطولته، وجد في الكورنيش ونهر النيل متنفسا، وفي الكلاب رفقة، وفي قلوب الناس حنانا مستترا. هو ليس مجرد شخص فقد منزله وأمانه، بل هو إنسان وجد في حافة الطريق مأوى لأحلامه المحطمة. قصته هي شهادة على قسوة الظروف، لكنها أيضا تبرز كيف يمكن للبشر أن يجدوا في أحلك المواقف أسبابا للتمسك بالحياة، ولو كان تمسّكًا بظل حلم صغير.