spot_img

ذات صلة

جمع

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

  في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط...

أن تكوني إفريقية في زمن الحرب.. سردية الناجيات السودانيات

في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، جلست "ش....

أثمن من نوبل.. نجوجي واثينجو حين تصمت الجوائز وتتحدث أفريقيا بلغتها

لو كنّا نحفظ أسماء كتّاب القارة كما نحفظ روائيي...

أن تكوني إفريقية في زمن الحرب.. سردية الناجيات السودانيات


في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، جلست “ش. م” على مقعد صنع من الخشب المحلي داخل مطعم يقدم الوجبات الشعبية. بدأت وكأنها تائهة في تفكير عميق، تحمل هموماً بوزن جبال مرة في إقليم دارفور المضطرب. وأشارت لنا إحدى السيدات ـ مالكة المطعم ـ بإيماءة تحذيرية دون أن تنتبه “ش. م” لما يدور حولها، لتطلب منا أن نتركها في حالها، قبل أن تتحدث لاحقاً بأنها قد تحسنت حالتها كثيراً عن السابق بفضل الرعاية التي حصلت عليها.
قدمت “ش. م” من السودان إلى معسكر اللجوء عبر رحلة شاقة امتدت لأيام، حيث واجهت صعوبات في بلدها لم تكشف عنها، وبدأت في تناسي ما شاهدته في السودان من خلال واقعها الجديد كعاملة في المطعم بأجر زهيد، لكن حينما ينفض الزبائن من المكان تعود إلى توهانها واستدعاء ذكرياتها الأليمة المريرة.
حكايات وقصص مؤثرة وصادمة يمكن أن تسمعها علناً عن معاناة النساء في السودان، مما يؤكد أن أكثر ضحايا القتال بين قوات الجيش ومليشيا الدعم السريع، الذي دخل عامه الثالث، هن النساء.

أرقام صادمة


وفي آخر تحديث لمعاناة النساء في حرب السودان، كشف تقرير حقوقي صادر عن الشبكة الشبابية للمراقبة المدنية (YCON) عن أرقام صادمة للانتهاكات التي تعرضت لها النساء. وتحت عنوان حملة “آمنات”، رفعت الشبكة الستار عن عام كامل (من 15 أبريل 2023 حتى أبريل 2024) من الانتهاكات الجسيمة التي طالت النساء، محولة أجسادهن إلى ساحة للصراع ومصادرة كرامتهن.
التقرير، الذي شارك فيه مختصون ومصادر ميدانية، رسم صورة مؤلمة لعنف قائم على النوع الاجتماعي، يشمل الاغتصاب الفردي والجماعي، التحرش الجنسي، الابتزاز، والإكراه الجنسي، وبشكل خاص في مناطق النزوح.
لم يكن هذا العنف عشوائياً، بل اتخذ طابعاً ممنهجاً، حيث ارتُكبت بعض هذه الجرائم بينما كانت النساء يبحثن عن لقمة العيش أو تحاولن التنقل، رابطاً بذلك بين قسوة انعدام الأمن الغذائي واستغلال الجسد. وتزيد الشهادات الموثقة من قسوة المشهد، إذ ترافقت الانتهاكات مع عنف لفظي مهين، يحمل في طياته بصمات عنصرية وجندرية.وعلى الصعيد الاقتصادي، ألقت حرب السودان العنيفة بظلالها الثقيلة على آلاف النساء، ففقدن وظائفهن في القطاعين العام والخاص، وتوقفت مصادر دخلهن في السوق غير الرسمي، مثل بيع الشاي والخياطة والزراعة.
ومع استمرار الحرب وفشل الجهود الدولية لإيقافها، تتفاقم الكارثة كل يوم بغياب الدعم، حيث تشير التقارير إلى أن الغالبية الساحقة من النساء النازحات لم تتلقَ أي مساعدة حكومية أو دولية ملموسة تُعينهن على هذا الواقع القاسي.

آلام نفسية


معاناة نساء السودان لم تقتصر على العنف على الجسد والاقتصاد، بل امتدت لتشمل الصحة النفسية والمعنوية.
يتفشى الوصم الاجتماعي، والشعور بالعزلة، وانعدام الأمان بين النساء – لا سيما داخل مراكز الإيواء التي وُصفت بأنها غير آمنة وتفتقر لأدنى مستويات الخصوصية – ويفاقم هذا الواقع المرير من حالات الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة بينهن.
ورغم كل هذه التحديات الجسام، يُبرز التقرير بصيص أمل يتمثل في المبادرات النسائية الذاتية التي قاومت ظروف الحرب، هذه المبادرات تجسدت في تقديم الدعم النفسي للناجيات، وتوثيق الانتهاكات، وحتى تأسيس مشاريع صغيرة بديلة لتوفير سبل العيش.
الشبكة الشبابية للمراقبة المدنية (YCON) وحملة “آمنات” التي أعدت التقرير، وجهت نداءً عاجلاً للمنظمات الدولية، طالبت هذه المنظمات باتخاذ إجراءات فورية لحماية النساء، وتقديم الدعم القانوني والنفسي لهن، وتفعيل آليات العدالة والمساءلة عن الجرائم المرتكبة بحقهن خلال هذا النزاع المدمر.
وعلى مستوى المجهود الرسمي، أعلنت وزارة الصحة السودانية عن تقديم خدمة المعالجة السريرية للناجيات من حوادث الاغتصاب في 25 مركزًا صحيًا موزعة على 7 ولايات، ضمن أنشطة مشروع تعزيز مرونة المجتمعات.
وتواجه المئات من النساء والفتيات اللواتي تعرّضن لاعتداءات جنسية تحديات خطيرة في الحصول على الدعم الطبي والنفسي والاجتماعي والقانوني في الوقت المناسب، خاصة فيما يتعلق بالعلاج الوقائي، نتيجة لانهيار النظام الصحي.
وتقول مديرة البرنامج القومي للصحة الإنجابية بوزارة الصحة السودانية، أمل محمود، إن هذه الخطوة جاءت عقب تدريب 29 من الكوادر الطبية في ورشة متخصصة نُظّمت بمدينة كسلا، بالتعاون مع منظمة اليونيسف وبتمويل من البنك الدولي.
وأكدت المسؤولة السودانية أهمية تطبيق المهارات المكتسبة عملياً في المراكز الصحية، مشددةً على ضرورة استمرارية التدريب لضمان تقديم رعاية آمنة ومهنية للناجيات من العنف الجنسي.
وتعرّضت مئات النساء في السودان للاغتصاب والعنف الجنسي والاختفاء القسري والاختطاف. ومن الملاحظ أن نسبة الاعتداء على النساء في تزايد مستمر، خاصة في المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
كانت مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل في السودان، سليمى إسحاق، كشفت عن توثيق 1385 حالة اغتصاب وعنف جنسي واسترقاق، ارتُكبت في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع قبل مغادرتها ولاية الجزيرة والخرطوم والنيل الأبيض في الفترة الماضية.
ويحظر القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، الاغتصاب وكل أشكال العنف الجنسي خلال الحروب.
واتهمت منظمة العفو الدولية قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات جنسية مروعة ضد النساء والفتيات في جميع أنحاء السودان، خلال الحرب التي دخلت عامها الثالث، بهدف إذلال المواطنين، وفرض السيطرة، وتهجير المدنيين.
وفي ظل هذه المعاناة المركبة، تبقى أصوات الناجيات شاهدة على مرارة الحرب وقسوتها، لكن في صمتهن أيضاً قوة وحياة. رغم الجراح والذكريات الموجعة، تبرز إرادة النساء السودانيات في البحث عن الأمان والكرامة، وصناعة مستقبل لا يُمحى من ذاكرة التاريخ. فحكاياتهن ليست مجرد قصص ألم، بل هي شهادات على الصمود، ونداء للتحرك العاجل كي لا تبقى أجسادهن ساحة للحرب.

spot_imgspot_img