spot_img

ذات صلة

جمع

سبتة بوابة الأمل والمخاطر.. ولادة تكشف الوجه الآخر لأزمة الهجرة في أوروبا

على بعد كيلومترات قليلة تفصل المغرب عن أوروبا، يمتد...

“دي جي” في وجه التحيز المجتمعي: فنانات يكسرن القوالب الجندرية في القاهرة

  في قلب القاهرة، حيث تزدحم المدينة بالحكايات المتشابكة والضغوط...

أن تكوني إفريقية في زمن الحرب.. سردية الناجيات السودانيات

في معسكر كرياندنقو للاجئين السودانيين في أوغندا، جلست "ش....

أثمن من نوبل.. نجوجي واثينجو حين تصمت الجوائز وتتحدث أفريقيا بلغتها

لو كنّا نحفظ أسماء كتّاب القارة كما نحفظ روائيي...

أثمن من نوبل.. نجوجي واثينجو حين تصمت الجوائز وتتحدث أفريقيا بلغتها

لو كنّا نحفظ أسماء كتّاب القارة كما نحفظ روائيي أوروبا، لما مرّ حديث عن الأدب الأفريقي دون أن يتصدّر نجوجي واثينجو المشهد. لم يكن مجرد كاتب كيني، بل ضمير قارة تتوق للتحرّر، وصوت خرج من عمق الغابة محمّلًا بأوجاع الأرض، يرفض التنازل عن الذاكرة، ويُمسك بلغة الأجداد رغم القمع، السجن، النفي، وتجاهل المؤسسات الغربية لصوته.
وُلد نجوجي في كينيا، في قلب مجتمع الكيكويو، حيث الحكاية ليست ترفًا أدبيًا، بل وسيلة بقاء وهوية تنتقل من جيل إلى جيل، وحيث اللغة ليست كلمات عابرة بل امتدادٌ لجذر الأرض والتاريخ. في مدارس المستعمر البريطاني تعلّم أن الإنجليزية وحدها لغة التقدم، بينما تُسحق الكيكويو وتُعامل كمجرد صدى بدائي لحياة يريدون اقتلاعها.
حين شبّ عن الطوق، أدرك أن الاستعمار لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يسرق الأسماء والعقول. كان اسمه عند الولادة “جيمس نجوجي”، اسم مسيحي فرضه النظام الكولونيالي على أطفال القارة، لكنه حين اكتمل وعيه، استعاد اسمه الحقيقي: نجوجي واثينجو، وأعلن أن مقاومة احتلال العقل لا تقلّ أهمية عن مقاومة احتلال الأرض.

اللغة الأم.. سلاح الذاكرة في وجه الاستعمار

قالها نجوجي بلا مواربة: “كانوا يعلّموننا أن اللغة وسيلة للتقدّم، لكن لم يقولوا لنا إن التخلّي عن لغتنا هو أول خطوة لفقدان الذات”. بالنسبة له، اللغة ليست أداة تواصل فقط، بل مستودع الذاكرة، وأي حكاية تُروى بلغة الآخر ليست سوى ترجمة مُشوّهة للألم، وبيع صامت للهوية.
رغم نجاحه في الستينيات والسبعينيات بروايات مثل “نهر بين ضفتين” و”حبة القمح”، كان يعيش صراعًا داخليًا مريرًا، يشعر أنه يُحكي قصة شعبه بلغة لا تخصه، كمن يتأمل منزله يحترق ولا يملك جرأة الدخول لإطفائه.
وفي لحظة مواجهة مع الذات، اتخذ قراره الأصعب: التخلّي عن الإنجليزية، والعودة إلى لغة الكيكويو، متحدّيًا هيمنة نظام النشر العالمي المُحتكر من الغرب. لم يكن هذا قرارًا لغويًا فقط، بل فعل تحرّر، إعلان أن اللغة مفتاح الذاكرة، وإذا ضاعت ضاعت القصة وابتلعت العولمة ملامح القارة.

الرواية فعل مقاومة… والمسرح ساحة مواجهة

كتاباته الأولى حملت نقدًا ناعمًا، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى نصل يُشرّح الواقع. في “نهر بين ضفتين” تتبّع أثر التعليم والدين على الروح الأفريقية، ثم جاء عمله “حبة القمح” ليُمعن في تفكيك السلطة، بلغة رمزية كثيفة تخبّئ الثورة تحت كل سطر.
ظل مشروعه يُعيد طرح الأسئلة الكبرى: كيف نستعيد ذاكرتنا؟ كيف نُعرّي الاستعمار؟ كيف نُواجه فشل ما بعد التحرّر؟ وكيف نُعيد تعريف هويتنا بأدواتنا؟ وهكذا جاءت روايات مثل “لا تبكِ أيها الطفل”، “بتلات الدم”، و”ساحر الغراب”، ليست مجرّد نصوص بل محاولة واعية لإنقاذ الأمة من براثن التبعية والخذلان.
في عام 1976، كتب مع الفلاح البسيط نجوجي وا ميري مسرحية “سأتزوج حينما أريد”، عُرضت بين المزارعين البسطاء، تفضح استغلال السلطة وتُعرّي الفساد المُغلّف بخطاب التقدّم الكاذب. لم تحتمل السلطة الكينية هذا التمرّد، فاعتقلوه، صودرت أعماله، وزُجّ به في سجن كاميتي شديد الحراسة لعام بلا محاكمة.

خلف القضبان.. الكلمة لا تُسجن

حتى خلف القضبان، لم يُهزم نجوجي. كتب روايته “شيطان على الصليب” بلغة الكيكويو وعلى ورق الحمّام، لأنهم منعوه من الكتابة على غيره. لم يكن انتصارًا أدبيًا فقط، بل انتصارًا للهوية في وجه القهر، رسالة صريحة بأن الكلمة المكتوبة بلغتها الأم لا تُخنق حتى في ظلمة السجون.
خرج من السجن إلى منفى في بريطانيا ثم الولايات المتحدة، لكنه لم يغادر معركته الحقيقية. واصل الكتابة والتدريس والمُحاضرات عن حق الشعوب في امتلاك لغاتها وذاكرتها، مؤمنًا بأن الاستعمار لا ينتهي بخروج الجنود، بل يتحرّر الإنسان حين يتحرّر من التبعية اللغوية والفكرية.

لا عودة بلا مواجهة… الهوية تُسقى بالدم

حين عاد إلى كينيا عام 2004، تعرّض لاعتداء وحشي هو وزوجته، حُرق جسده بالسجائر، في هجوم قال كثيرون إنه مدفوع بأذرع سياسية تخشى عودة صوت الغابة إلى قلب الوطن. لكنه لم يتراجع، بل زاد تمسّكًا بلغته، مؤمنًا أن تحرير القارة يبدأ باستعادة سرديتها.
رُشّح نجوجي مرارًا لجائزة نوبل، لكنها لم تُمنح له، في تجاهل رأى فيه كثيرون تحيّزًا ضد الأصوات الأفريقية الحرّة، خصوصًا من تجرّأ على كسر معاييرهم. لكنه لم يُبالِ، قالها بصلابة: “أنا لا أكتب لأُصفّق، بل لأُفكّر وأُقلق وأُذكّر، الجوائز إذا جاءت، فمرحبًا، وإن لم تأتِ، أكتب لمن أكتب لهم”.

تفكيك استعمار العقل… وصيّة لا تموت

لم يتوقّف مشروعه عند الرواية، بل كتب نصوصًا فجّرت الأسئلة، أبرزها “تفكيك استعمار العقل”، الذي يُعدّ حجر أساس في مقاومة الاستعمار الثقافي، إلى جانب “الكاتب والمنفى” و”الحلم في زمن الحرب”، حيث روى كيف تشكّلت روحه المُقاوِمة في ظلال الغابة وتحت نيران مقاومة الماو ماو.
كان يرى أن الأدب الأفريقي لا يحتاج تصديق الغرب ليحيا، لا يحتاج الترجمة ليحمل جذور الأرض، هو أدب يُكتب من الطمي، من وجع الشعوب، من ذاكرة الأجداد، يكفي أن يُكتب بصدق ليُقرأ بالقلب، لا بالعين فقط.

الغابة لا تُقتلع جذورها… حتى وإن قطعوا شجرها

في 28 مايو 2025، أسدل الموت الستار على جسد نجوجي واثينجو، لكن كلماته لم تُسدل عليها ستائر النسيان. رحل من حمل لغة الكيكويو كدرع، ومن حوّل الكتابة إلى مقاومة، ومن أدرك أن استعمار الأرض يبدأ من اغتيال اللغة، واستعادتها هي بداية التحرّر الحقيقي.
لم ينل نوبل، ولم يبحث عنها. كان يعرف أن الجوائز تُصنع في مكاتب السياسة، أما الكلمات المزروعة في الأرض، فلا تحتاج تصديقًا من أحد. ترك وصيته الأهم: “حين تتحرّر لغتك، تتحرّر ذاكرتك، ويتحرّر وطنك”، واليوم، تظل كلماته حيّة، تمامًا كالغابة التي لا يُمكن اقتلاع جذورها… حتى وإن ظنّوا أنهم قطعوا شجرها.

spot_imgspot_img