بينما تعزف الموسيقى العسكرية وتنطلق الاحتفالات بالخطب السياسية والأزياء التقليدية والرقصات والأعلام الوطنية، يخرج المواطنون في جنوب إفريقيا احتفالا بـ“يوم الحرية“، إحياء لذكرى أول انتخابات ديمقراطية في البلاد، جرت في 27 أبريل 1994 بعد انهيار نظام الفصل العنصري “الأبارتهايد“، تطالع “سيني مكانيانا” الأنباء بشأن هذه الاحتفالات، بينما يدور في خلدها سؤال دائم، هل أنا حرة بالفعل؟ هل هذا ما كنت أريده في النهاية؟ قررت أن تسلك الطريق الآخر، ارتدت قميصها الأحمر – باللون الشهير لحركتها – منضمة إلى 255 من أبناء مستوطنها في مسيرة بسيارات الأجرة، للمشاركة في “يوم اللاحرية“.
دون سابق إنذار، أجليت “سيني” – 41 عاما – من مستوطنها في مقاطعة كوازولو ناتال، ضمن كثيرين آخرين من سكان الأحياء الفقيرة في البلاد، واجه بعضهم ممارسات غير قانونية من السلطة والشرطة المحلية، لمحاولة إبعادهم عن أراضيهم، لتقرر في 2019 الانضمام لحركة ساكني الأحياء الفقيرة“، أو حركة ساكني الأكواخ المعروفة باسم “أباهلالي بازمجندولو Abahlali baseMjondolo (AbM)”، الناشطة في الدفاع عن حقوق الفقراء والمهمشين في البلاد، خاصة سكان الأحياء الفقيرة منهم، قبل أن تصبح نائب الأمين العام للحركة فيما بعد.
“هل هو كثير علينا أن نحصل على حقنا في سكن لائق بعد سنوات من الكفاح والمعاناة؟ أليس الفقراء والعمال هم بناة دولتنا وأغلبية سكانها، لماذا إذا تتحالف الحكومة وأصحاب المصالح ضدنا لمجرد مطالبتنا بجزء بسيط من كرامتنا كبشر، ويصنفان مطالبتنا بهذا الحق الإنساني على أنه جريمة؟ يريدوننا أن نحتفل بـ“يوم الحرية“، أي حرية هذه ونحن نتعرض للتهميش والاضطهاد والاستهداف يوميا لمحاولتنا الحصول على مكان تتكيء عليه رؤوسنا لتستريح ولو قليلا من كل هذه المعاناة؟ أولى بهم أن يسموه يوم “اللاحرية“، تقول “سيني” لـ“أصوات إفريقية“.
ما تمر به “سيني” ليس حادثا فرديا، بل مأساة يومية يعيشها سكان الأكواخ في جنوب إفريقيا بعدما واجهوا جميع أنواع الإقصاء والعنف والقمع لمجرد حقهم في التفكير في الحصول على السكن والأرض والخدمات الاجتماعية الأساسية، بينما يعيشون على هوامش مناطق الدولة الحضرية في أراض غير مستخدمة، تصنفها السلطات كـ“مستوطنات غير رسمية“، وتواجهها بمحاولات الطرد القسري لأصحابها وحرق منازلهم، والاعتداء على بعضهم، والزج بالبعض الآخر في السجون بتهم ملفقة، وتتخطى الممارسات أحيانا هذه الحدود لتصل إلى تنفيذ اغتيالات ضد ممثلي السكان وقادتهم.
يوم الحرية يتحول إلى “يوم اللا-حرية”
في 27 أبريل من كل عام، تحتفل جنوب إفريقيا بـ“يوم الحرية” هو يوم عطلة رسمية يشهد إحياء ذكرى أول انتخابات ديمقراطية في البلاد، جرت في 27 أبريل 1994 بعد انهيار نظام الفصل العنصري “الأبارتهايد“، لكن رغم مرور ما يقارب 30 عاما على انتهاء الفصل العنصري في البلاد، ما يزال المواطنون السود، الذين يشكلون الأغلبية العظمى من السكان، يكافحون من أجل نيل حقوقهم الأساسية، رافضين ما يصفونها بـ“دعاوى الاحتفال بالحرية الزائفة“، التي تصب اهتمامها فقط على مصلحة القلة، بينما الغالبية العظمى في هذا البلد ما تزال تعيش في فقر مدقع، وما تزال محرومة من حقها الدستوري في الحصول على الكهرباء والمياه بل الصرف الصحي، فيما يتم تصنيفه على أنه “أبارتهايد جديد“.
تزامنا مع هذا الاحتفال، تنظم “حركة ساكني الأحياء الفقيرة“، أو حركة ساكني الأكواخ المعروفة باسم “أباهلالي بازمجندولو Abahlali baseMjondolo (AbM)”، ما تسميه “يوم اللاحرية“، بمسيرات وفعاليات وأنشطة جمعية متنوعة، لتسليط الضوء على المعاناة التي يتشارك أعضاؤها – الذين يتخطى عددهم 100 ألف شخص – ويلاتها، كأكثر التجمعات تنظيما داخل البلاد منذ الفصل العنصري، ليتضامن مع فاعلياتها هذا العام موظفون بالضرائب، وتجار الشوارع، والعديد من التنظيمات الأخرى.

سيني خلال المسيرة، المصدر: Fiola Seruba / Pan Africanism Today
“عندما يكذب حزب المؤتمر الوطني – الحاكم – والحكومة علينا ويخبروننا أننا أحرار، فإنهم يهينون ذكائنا وإنسانيتنا، نحن لسنا أحراراً مادمنا نتعرض للاغتيال، ومنازلنا تتعرض للتدمير، بينما نحن محرومون من الحق في بناء مجتمعات مستقلة وديمقراطية، وتحرمنا النخبة من مجرد الحق في التفكير واتخاذ قراراتنا بأنفسها، لسنا أحرارًا لأننا نعيش في مجتمع ينكر إنسانيتنا ويخرب كرامتنا كل يوم، عامًا بعد عام، ولن نكون أحرارًا حتى يتم تقاسم الأرض والثروة والسلطة بشكل عادل ، ويكون لكل شخص الحق في التنظيم بحرية وأمان، والمشاركة في جميع عمليات صنع القرار التي تؤثر عليه وتحترم الإنسانية والكرامة“، تقول الحركة – التي تأسست في عام 2005 وتنظم تحت شعار “الأرض والإسكان والكرامة” – في بيانها بتاريخ 25 أبريل 2023، تزامنا مع فاعلياتها لـ“يوم اللاحرية“.
منذ تأسيسها، عانت الحركة من اضطهاد سياسي مستمر بسبب نضالها من أجل الحريات ذاتها التي تم الاحتفال بها في 27 أبريل، حيث تم اغتيال 24 ناشطا وقياديا بها، بمن فيهم قادة مجتمعات إينخينانا، وأياندا نجيلا، ونوكوثولا ماباسو، وليندوكول نجوني، الذين اغتيلوا في العام الماضي وحده.
أبارتهايد جديد
“تحطمت حياتنا وآمالنا، معظم الشباب عاطلون عن العمل ولا تستطيع معظم العائلات تحمل تكاليف تناول طعام صحي، الكثيرون يعانون من الجوع، إنه لأمر مؤلم للغاية أن يضع أي والدين طفلهما في الفراش على معدة فارغة“، تضيف الحركة.
وتوضح: ” الثروة التي تسيطر عليها الدولة وتنظمها لم يبنها السياسيون، ولم تكن ملكهم الخاص، فثروة القلة تأتي من سلب واستغلال الكثيرين، لقد تم إفقارنا حتى يصبح الآخرون أغنياء ونبقى فقراء حتى يظلوا أكثر ثراء، لقد أصبح المجتمع أكثر عنفًا، واستحوذت المافيات المرتبطة بالسياسة على المزيد والمزيد من المؤسسات والمناطق، بينما لا تعاملنا الدولة مثل الآخرين، بل نتعرض بانتظام للتجاهل والإهانة والمضايقة والاعتداء والسرقة وتدمير منازلنا وأكشاكنا في الشوارع تحت تهديد السلاح، بعض جيراننا ورفاقنا تعرضوا بالفعل للاغتيال، وهو ما يواجهه السود بشكل شبه منتظم في جميع أنحاء البلاد، لقد تركنا للعيش في أكواخ، بما في ذلك ما تسمى “معسكرات العبور” الحكومية، لقد تركنا نحترق ونُقتل في الأكواخ لنموت وحدنا“.
“كل ما حصلنا عليه في 1994، هو فقط الحق في التصويت، لكن ذلك لا يعني حرية سياسية بالمعنى الكامل، بل نراه حرية زائفة تصب اهتمامها فقط على مصلحة القلة، بينما الغالبية العظمى في هذا البلد ما تزال تعيش في فقر مدقع“، يقول رئيس الحركة ساكني الأحياء الفقيرة “سبو زيكودي” تزامنا مع فعاليات يوم “اللاحرية“.

صورة من الاحتجاجات. المصدر: Fiola Seruba / Pan Africanism Today
لكن بالنسبة للحركة، فما يعيشونه لا يرتبط بقريب أو من بعيد بالحرية، تشرح في بيانها: “بالنسبة لنا، الحرية تعني الحق في المشاركة في صنع القرار وتحديد السياسات، هو شيء ينبغي أن نشعر به لا أن يأمرنا السياسيون بالاحتفال به، الحرية يجب أن تأتي من داخلنا، كحق في حياة كريمة، ومن ثم فمادامت ليست هناك حرية في الحديث، ومادمنا نتعرض للاغتيال في كل مرة نرفع أصواتنا بشأن القضايا التي تهمنا، إذا ليست هناك حرية حقيقية“.
لا تواجه “أباهلالي” الاستهداف الحكومي فقط لمطالبتها بالحق في الأرض والسكن والكرامة، بل لمبادراتها المحلية في مواجهة سياسات الاستغلال الاقتصادي، بإقامة مشروعات تكافلية بجهود ذاتية للمهمشين، ببناء مساكن وشبكات كهرباء وصرف صحي ومزارع دواجن ومدارس تثقيف سياسية، فضلا عن الاستفادة من الموارد الطبيعية في مناطق وجودها لتحسين أوضاع السكان، كنموذج حي للتضامن المجتمعي لصنع واقع وتصور لمستقبل أفضل عبر المجتمعات المحلية.
ما تزال “سيني مكانيانا” في كوخ صغير لا يتمتع بالحد الأدنى من الخدمات الأساسية، بلا مياه نظيفة أو مرحاض، ولا حتى وظيفة، وتواجه وزملائها من سكان جميع الأحياء الفقيرة في البلاد أخطار الإجلاء والاستهداف والاعتداءات اليومية، لكن ذلك لم يفتر من عزيمتهم في استمرار سعيهم نحو الدفاع عن حق الجميع في الأرض والسكن والكرامة الإنسانية، دون أي اعتبارات طبقية أو عرقية أو دينية، علها تمنع البلاد من الوقوع في شرك “أبارتهايد جديد” بينما ما تزال لم تشف من ويلات القديم بعد.