لم يدر بخلد المراهق السوري، علي الحموي، أن رحلته الخطرة نحو الهجرة الاضطرارية ستأخذ هذا المنزلق المميت. بعد هروبه من الحرب والسجون في سوريا، على أمل الوصول إلى القارة الأوروبية عبر سفينة غير صالحة للإبحار، ليجد نفسه تحت شرك تحالف إجرامي دولي، تتورط فيه دول، ويعيده قسرا إلى ليبيا، ليبدأ رحلة جديدة من المعاناة، هذه المرة، تعمل دول خارج القانون الدولي ضد أشخاص أبرياء.
23 مايو/ أيار 2023، ربما لن يستطع الحموي أن يمح هذا اليوم من ذاكرته طوال حياته، حينما تعطل محرك السفينة التي كانت تحمل ما يقرب من 500 مهاجر من جنسيات متنوعة بين سوريا ومصر وبنجلاديش وباكستان، من بينهم 55 طفلا و45 سيدة.
بات جميع من في السفينة مثل القشة تحت الموجات المتلاطمة ومن دون أي قدرة على التحكم فيها، تحول كابوسي لم يكن منتظرا أو محسوبا لهذا العدد الكبير من المهاجرين. على الفور أصاب الهلع الكبار، بينما انهمرت دموع الأطفال وجف ماء وجوههم، توقف المحرك وتوقفت معه القلوب، وأصبح الموت أقرب من أي وقت مضى.
لحسن الحظ، نجح عدد من المهاجرين في التواصل مع مبادرة “ألارم فون”، المختصة في التواصل مع المهاجرين في البحر ومحاولة مساعدتهم عبر سفن الإنقاذ أو قوات الدول القريبة التي يوجدون في مياهها الإقليمية، وبالفعل نجح مسؤولو المبادرة في تحديد موقع السفينة: المهاجرون داخل منطقة البحث والإنقاذ التابعة لسلطات مالطا بمسافة 30 ميلا، وهي منطقة تتولى السلطات المالطية عمليات الإنقاذ والبحث فيها.
مياه البحر تختلط بدموع الباحثين عن قشة النجاة
بعد ساعة من الاتصال الأول لطلب المساعدة، أخبرت المبادرة السلطات المالطية ومكتب الإنقاذ والبحث في العاصمة الإيطالية روما، بالإضافة إلى سفن مدنية موجودة في المنطقة، على أمل التدخل. لكن، بدلا من التحرك لإنقاذ هذا العدد الكبير من المهاجرين، ازداد الوضع صعوبة: تسللت المياه إلى السفينة، وهوى طابقها السفلي إلى داخل البحر. هرع المهاجرون للتكدس في الطابق الثاني. ومن بينهم علي الحموي، الذي كان يراقب ارتفاع المياه في السفينة برعب، بينما لم يكن سيناريو الموت غرقا متوقعا حتى في أسوأ كوابيسه.
على مسافة قريبة، رأى الحموي ورفاقه المهاجرون العديد من السفن المارة عبر البحر، حاولوا استجدائهم لطلب المساعدة ونقلهم لن دون أدنى استجابة، بدأت المياه في التدفق للطابق الثاني، أما القوات المالطية؟ ظلت متجاهلة جميع دعوات التدخل. زاد الهلع واقترب المهاجرون من سيناريو الموت بحلول الليل، إذ اصطدمت سفينة تجارية بسفينتهم وفاقمت من مأساتها مع إحداث ثقوب جديدة في هيكلها، تحكي مبادرة “ألارم فون” في بيان مشترك مع منظمات إنقاذ غير حكومية في البحر المتوسط.
يروي الشاب السوري سيناريو الرعب بعد الاصطدام، قائلا: “زاد الهلع والخوف حتى فوجئنا بالمياه تغمر أقدامنا جراء تسريب المزيد من المياه داخل السفينة، هرعت الأمهات لحمل الأطفال فوق أذرعهن أملا في إنقاذهم على الأقل، بينما تنهمر الدموع ويكسو اليأس الوجوه، لم ننتظر سوى إنقاذ إلهي”.
بحلول السادسة من صباح اليوم التالي، أجرت المبادرة اتصالا جديدا وأخيرا بالمهاجرين المنكوبين، الذين أخبروها باستمرار الوضع على حاله، وعدم استجابة السلطات المالطية لنداءات الاستغاثة. بعد بضع ساعات أجروا مكالمة أخيرة بواسطة هاتف متصل بالأقمار الصناعية مع طرف غير معلوم.
خلال الساعات التالية، فُقِد الاتصال بالسفينة تماما، أصيب أهالي المهاجرين بهلع، ليسارعوا بالاتصال بموقع المبادرة مرات عدة لمعرفة مصير ذويهم على السفينة.
بحلول ليلة 24/ 25 مايو، وصلت سفينة إنقاذ مصحوبة بسفن أخرى إلى المنطقة للبحث عن المهاجرين اليائسين، لكن المفاجأة أنهم لم يجدوا لهم أثرا، حاولت السفن التواصل مع السلطات المالطية، التي واصلت الصمت بشأن مصير المهاجرين. أرسلت سفن الإنقاذ طائرة بحث عن السفينة المفقودة، وطافت على مدار اليوم في المنطقة المحيطة، لا أثر أيضا.
السجن بدلا من الإنقاذ.. سيناريو المقامرة بالأرواح عرض مستمر

عادت “ألارم فون” للتواصل مع السلطات المالطية والإيطالية، لطلب معلومات بشأن مصير المهاجرين على السفينة. تنامى الخوف وتزايدت التساؤلات: هل أجبرتهم السلطات على العودة إلى ليبيا مرة أخرى؟ تأكدت المخاوف بحلول صباح اليوم التالي: لم يتم إنقاذ المهاجرين بل تم جر السفينة المنكوبة – بينما تغمرها المياه – إلى مسافة 350 كيلومترا حتى ميناء بنغازي، بواسطة السلطات المالطية، ليتم الزج بهم جميعا – بمن فيهم النساء والأطفال – في أحد سجون المدينة الليبية.
وبدلا من توفير سبل مساعدة الهاربين من سيناريوهات الموت في بلادهم وفي البحر، وفي الطريق بينهما، أعادتهم السلطات الأوروبية قسرا من داخل البحر، لتسليمهم إلى سلطات أخرى وضعتهم بين جدران الزنازين عرضة للانتهاك والتعذيب، والحرمان من أبسط حقوقهم الإنسانية الأساسية.
مع تزايد أعداد المهاجرين الذين يحاولون العبور من ليبيا وتونس إلى الجانب الآخر من المتوسط خلال الشهور الأخيرة، تتوسع سلطات دول الاستقبال الأولى في عمليات التعقب والإجبار على العودة إلى ليبيا. حيث تتعمد دول مثل إيطاليا ومالطا واليونان، القيام بممارسات خطرة تجاه المهاجرين. بداية من تجاهل دعوات الاستغاثة التي يطلقها المهاجرون أو سفن المنظمات غير الحكومية العاملة في البحر المتوسط، لتترك المهاجرين إلى مصير الغرق. وصولا إلى إعادة المهاجرين إلى ليبيا أو الدفع بهم وبمراكبهم المتعطلة خارج مياهها الإقليمية في محاولة للهروب من المسؤولية الإنسانية.
في الفترة بين 28 أبريل والأول من مايو 2023، كشفت “ألارم فون” عن تجاهل السلطات المالطية نداءات استغاثة من قاربين يحملان على متنهما 114 مهاجرا، وعدم قيامها بأعمال الإنقاذ اللازمة لهؤلاء الأشخاص، بينما كانت حياتهم على المحك، من جراء تعطل قاربيهم في البحر.
تشرح بيانات منظمات حقوقية أنه خلال العام الماضي، تجاهلت مالطا إنقاذ 7459 مهاجرا، بسبب هذه السياسة، فضلا عن تنفيذها 14 عملية إرجاع إلى ليبيا، تضمنت 789 مهاجرا.
لا تقتصر هذه السياسات الهادفة لعدم استقبال المهاجرين، على مالطا فقط. حيث تظهر بيانات “قاعدة بيانات المهاجرين (أيدا)، أنه خلال عام 2022، تم إجبار 24684 على العودة إلى ليبيا، بعد تعقبهم، سواء من خفر السواحل الليبي أو خفر السواحل الدول الأوروبية المشاطئة للبحر المتوسط.
مصير لا يختلف كثيرا عن الموت
لا يدري المراهق السوري علي، والمهاجرون الآخرون المجبرون على العودة قسرا إن كانت هذه العودة أفضل من الموت خلال الرحلة، أم أنها ستكون أسوأ من الموت في ظل الوضع المزري داخل مراكز اعتقال المهاجرين، بشهادات منظمات دولية مختصة بالهجرة.
تشير منظمة الهجرة الدولية إلى اعتقال 5 آلاف مهاجر داخل مراكز الاحتجاز الليبية، موضحة أن هذا الرقم هو الرسمي فقط، بينما هناك عدد أكبر بكثير داخل مراكز اعتقال غير رسمية، يتعرض لضروب من المعاملات غير الإنسانية، ودائما ما يتعرض للتعذيب، والتجويع والحرمان من المياه، والوضع في غرف مكدسة وغير آدمية لا يصلها النور حتى من أسفل أبوابها.
تبين منظمة الهجرة أن الوضع أسوأ داخل مراكز الاعتقالات غير الرسمية، فالمهاجرون يتعرضون للاعتداءات الجنسية والعبودية، وحتى القتل.
البعض الآخر، بعد كل هذه الاعتداءات، يتم ابتزازهم من مهربين وعاملين في مراكز الاعتقال، من أجل إجبار أسرهم على دفع الأموال لإطلاق سراحهم، وفق المنظمة الدولية.
يعد البحر المتوسط، من الأكثر فتكا بالبشر في العالم، إذ لقى أكثر من ٢٦ ألف شخص مصرعهم أو فقدوا خلال الرحلة في الطريق عبره وفقا لإحصاءات، ورغم هذا الطريق الدموي، فإن النجاة منه، والإجبار على العودة من جديد، لا تختلف كثيرا عن الموت، بل ربما تكون أسوأ.