في صباح يوم 24 مارس، وفي منزل بسيط بقرية ندياغانياو، غربي السنغال، جثى بصيرو يوماي فاي، أمام والده العجوز، بركبتيه على الأرض، قبل أن يضع بطاقة اقتراعه في صندوق الاقتراع، طالبا منه أن يدعو له ليمر يوم الانتخابات بسلام.
كان يوما تاريخا لوالد هذا الشاب، الذي يأتي من وسط المزارعين. ويوما لا ينسى أيضا لقريته التي أصبحت حديث الساعة. بمجرد إعلان النتيجة، تدفق العديد من الزوار على باحة المنزل، خلق هذا جلبة واسعة، اضطرت الأسرة لإخفاء الأطفال حتى لا يسحقون خلال الحشود، كما يقول إبراهيما، أحد أشقاء الرئيس السنغالي الجديد.
جاء بصيرو من وسط متواضع وبعيدا عن النخبة في العاصمة السنغالية دكار، استطاع هذا المفتش السابق في مصلحة الضرائب أن يصبح الوجه الأول في السنغال، ويخرج من عباءة المعارضة القديمة ليصبح أصغر رئيس للبلد في سن 44 عاما.
الإرادة الشعبية تنتصر
ما يميز هذا الانتصار هو أنه يُعد الأول من نوعه في تاريخ السنغال، فهذه هي المرة الأولى في 12 انتخابات انتخابية بالاقتراع العام، التي يفوز فيها مرشح معارض في الجولة الأولى. ويكتسب أهمية أكبر في ضوء العدد الكبير من الأصوات التي حصل عليها فاي، كما يعكس تغيراً جذرياً في التوجهات السياسية والرغبة الشديدة في التغيير بين الناس.
بالنظر إلى النتائج الأولية التي أعلنتها مفوضية الانتخابات، حصل فاي على نحو 53.7 بالمئة من الأصوات، مقابل 36.2 بالمئة لمنافسه با، بعد فرز 90 بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى من التصويت. وقد أظهرت هذه النتائج الدعم الواسع الذي حظي به فاي من الشعب السنغالي، خاصة بعد مسيرته النضالية واعتقاله السابق، ومنذ ظهور المؤشرات بدأت أعين العالم تترقب وتتنبه إلى شخصية الرئيس الجديد، الذي خرج من السجن مباشرة إلى ساحة الحملة الانتخابية.
هنأ با والرئيس السنغالي المنتهية ولايته ماكي سالفاي، مشيدا بالنتيجة باعتبارها انتصارا للسنغال، التي تضررت سمعتها كواحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارا في غرب أفريقيا عندما قام سال بتأجيل الانتخابات. وقال با “الشعب السنغالي عزز ديمقراطيتنا. أتمنى له (فاي) النجاح كرئيس لبلادنا”.
والمفارقة أنه لم يطلق سراحه من السجن إلا بعد أقل من أسبوعين من بدء الحملة الانتخابية في إطار قانون العفو العام الذي أصدره الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال.
من السجن إلى القصر
من بوابة السجن، خرج فاي إلى الميدان، ليدرك أن 10 أيام من الدعاية الانتخابية لم تكن في الواقع سوى جزء محدود من حملة انتخابية طويلة لصالحه وتحالفه الانتخابي، في ظل الأزمة السياسية والملاحقات القضائية.
وساهمت قرارات الرئيس سال الأخيرة في تأجيل الانتخابات وأثارت استياء واسعا في جميع الأوساط، فيما يعمد العديد من السنغاليين، إلى الإعلان عن هذا المرشح الذي خرج للتو من صراع استمر 3 سنوات وانتهى بسجنه، ثم صعد إلى المراتب العليا في النتائج المعلنة في الانتخابات حتى الآن، باعتباره المرشح الأرجح، أو خامس رئيس للسنغال، ليحكم دولة يبلغ عدد سكانها 18 مليون نسمة. نسمة، بينما لم يسبق له أن شغل أي منصب رسمي سواء بالتعيين أو الانتخاب.
وينتمي بصيرو للشباب، فهو من أصغر المرشحين للرئاسة في بلاده، ويبلغ من العمر 44 عاما فقط، وواجه الاعتقال خلف قضبان سجن “كاب مانويل” بالعاصمة السنغالية داكار، قبل أن يتولى منصب الرئاسة، تحيث م إطلاق سراحه بعد 6 أيام من الحملة الانتخابية عقب صدور عفو عام من الرئيس ماكي. في إطار محاولته تهدئة المشهد السياسي تزامنا مع انتهاء فترة ولايته.
نضال طبقي ونقابي وسياسي
ينحدر فاي من منطقة أمبور (غرب السنغال)، وتحديداً من قرية ندياغانياو الزراعية، وبين الحقول وروضة الأطفال، عاش الصبي جزءاً من طفولته ومراهقته، قبل حصوله على الثانوية العامة (البكالوريا) عام 2000، وبهذه النشأة تشكلت شخصيته ورؤيته للعالم، وقيمه ومبادئه الأساسية، فبات لديه فهم حي للقضايا الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها الفقراء من أبناء وطنه، فضلا عن تجربته الشخصية مع مشاكل الفقر والعدالة الاجتماعية.
اليساري الشاب من المعروف عنه أنه ورفيقه عثمان سوكو من أكبر الداعمين للأفكار البان أفريقانية، بالإضافة إلى الوحدة الوطنية والقارية، ومناهضة الاستعمار الحديث وسياسات الإفقار النيوليبرالية، مجسدين نموذجين للنضال من أجل التحرر الاقتصادي والسياسي للشعوب الأفريقية، فضلا عن معارك النضال الطبقي، وهو ما يظهر بوضوح في مسارهما الحياتي ونشاطهما السياسي.
ويمثل فاي نموذجًا للقائد الشاب الذي خاض معركة ضد الفساد والاستبداد، ونجح في تحقيق تأثير كبير في الساحة السياسية بفضل رؤيته الواضحة وقدرته على توجيه رسائل قوية إلى الشعب.
بدأ مسار ديوماي فاي بالتحصيل العلمي في جامعة الشيخ آنتا جوب ونيله لشهادة الماجستير في القانون، مما أعطاه الأسس اللازمة لفهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها السنغال. لكن لم يكتف فاي بالبقاء في المجال الأكاديمي، بل شارك بفعالية في النضال النقابي مع صديقه ومعلمه السياسي عثمان سونكو، وقاد حملات لمكافحة الفساد والظلم الاجتماعي.
تجلى تأثير فاي وسونكو في إنشاء نقابة خاصة باتحاد الضرائب والعقارات، حيث استطاعا تنظيم العمال والموظفين والدفاع عن مصالحهم بفعالية. كانت هذه الخطوة البداية لمسيرة سياسية مليئة بالتحديات والانتصارات، حيث تصاعد الصراع مع نظام الرئيس ماكي سال الذي حاول قمع النشاط النقابي والسياسي لفاي وسونكو وأتباعهم.
تم اعتقال فاي في أبريل/نيسان 2023 بتهمة ازدراء المحكمة وإهانة القضاء، لكن هذا لم يثنه عن استمرار نضاله. ومن الجدير بالذكر أن فاي كان له دور بارز في إعادة هيكلة حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة – باستيف”، اليساري المعارض، والذي أصبح له تأثير كبير في الساحة السياسية السنغالية.
بعد اعتقاله، استطاع فاي من داخل السجن أن يحافظ على نضاله ويجذب دعمًا واسعًا من الشعب السنغالي، وخاصة من الشباب الذين يرون فيه رمزًا للتحرر والتغيير، وبعد الإفراج عنه، تمكن بشكل ملحوظ من تنظيم حملته الانتخابية وجذب دعم كبير من الشعب السنغالي، وخاصة من الفئات الشبابية التي تطمح إلى تغيير جذري في النظام السياسي والاقتصادي.
دور “سونكو”.. ورؤية استقلالية ضد “الاستعمار الحديث”
يمكن القول أن فاي تمتع بتركيبة ضمنت فوزه إلى حد كبير. الدعم القوي من عثمان سونكو والمرشح المستبعد كريم واد، وتحصين الوجوه الشابة كان كافيا لجذب بوصلة الغضب الشعبي تجاه النظام الحاكم لصالح ديوماي فاي، مستغلا سوء الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار، وارتفاع معدلات البطالة. وتفاقم الأمر بسبب قرار تأجيل الانتخابات.
المرشح الفائز لرئاسة السنغال، صاحب اللحية الأطول نسبيا مقارنة ببقية منافسيه، له مواقف مشهودة خاصة بشأن التحرر الإفريقي – الإفريقي، والقضاء على الاستغلال الغربي لشعوب وثروات القارة، وإعادة التفاوض بشأن اتفاقيات الغاز والنفط والصيد والتعاون.
وشهدت حملته أيضًا تأكيدات بإنهاء السيطرة على الفرنك الأفريقي، وهو فرنسي الأصل، وسك عملة سنغالية خاصة بدلاً من ذلك. وليس هذا فحسب، فإن ديوماي فاي أيضا لا يفضل اللغة الفرنسية، بل يفضلها على الإنجليزية، ووعد بإعادة النظر في بعض اتفاقيات الدفاع في إشارة إلى باريس، تماشيا مع توجهه الواضح نحو السيادة والاستقلالية الإفريقية.
تمثل خطابات فاي تجسيدًا للرغبة في إنهاء السيطرة الفرنسية على الاقتصاد السنغالي وتحقيق الاستقلال الحقيقي للبلاد. يعد فاي وعثمان سونكو جزءًا من حركة تحررية تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للسنغاليين والشعوب الأفريقية بشكل عام.
لم ينتصر فاي وسونكو فقط في الساحة السياسية، بل استطاعا أيضًا جذب دعم شعبي واسع، خاصةً من الشباب السنغالي الذي يطمح إلى تغيير جذري في النظام السياسي والاقتصادي القائم.
فاي، الوافد الجديد على الساحة السياسية، لم يأتِ ليُحقق فوزًا فقط، بل ليمثل رمزًا للتحرر والتغيير، وولدت شعبيته من مسيرة نضالية طويلة، بدأت بانتفاضته ضد الفساد والظلم الاجتماعي. وعلى الرغم من تجربته السابقة في السجن، استطاع فاي استمالة دعم واسع من الشعب السنغالي، وخاصة الشباب الذين يرون فيه بوصلة للتغيير.
فاز ديوماي فاي في الانتخابات الرئاسية بفضل دعم الشعب وقيادته القوية وبرنامجه التحرري والطموح الواضح، وهو ما من شأنه أن يمثل بداية جديدة للسنغال وفرصة لتحقيق تغيير إيجابي يعود بالفائدة على جميع شرائح المجتمع السنغالي، لكن يجب أن نتذكر أن الانتصار الانتخابي لفاي وسونكو لم يكن نهاية الصراع، بل كان بداية لمرحلة جديدة من التحديات والمسؤوليات تتطلب الكثير والكثير.