في كل صباح، كان كريم يستيقظ مثل عادته. بمجرد فتح عينه، يطالب أمه بإصرار اصطحابه إلى حقل الزراعة القريب. تصر والدته على الرفض، لكن ينتهي الموقف باستسلام حذر مع تعليمات مشددة بالسير على خطاها. في قرية أناكاجا، بمقاطعة موبتي، بوسط مالي، يستعد الأهالي لبذر بذور الدخن، مع اقتراب الزخات الأولى من موسم الأمطار، لكن يخاف الجميع من العدو اللامرئي.
هنا في قرية أناكاجا، يدرك الأهالي خطورة أي خطوة غير محسوبة. يراقب كل شخص موضع قدمه، بدقة وكأنه يبحث عن شيء ثمين سقط منه في الأرض. أصبح المواطنون يسيرون ورؤوسهم للأسفل في كل حين. هنا، خطوة غير محسوبة تعني الموت، وأقل تقديرا تفقد فيها قدمك وأجزاء أخرى. أنها أرض الألغام.
الخطر قادم من باطن الأرض
على مر العصور، شكلت موبتي أهمية كبيرة في الدولة المالية. حيث تشكل المنطقة الواقعة بين الشمال والجنوب ترسا هاما للتجارة والربط البري للبلد. لكن موقعها المتميز حولها للعنة كبيرة خلال الفترة الأخيرة خاصة خلال الصراع بين القوات المالية والجماعات المسلحة، لاسيما المتشددة.
لأهمية هذه المنطقة الاستراتيجية كرابط بين شمال البلاد والجنوب الغربي، أصبحت موقعا لردع القوات المسلحة من الوصول إلى الطرف الآخر من البلاد لمهاجمة الجماعات المسلحة. لكن وجد المسلحون ضالتهم في سلاح غير مرئي خطير، يفتك بالجميع، حتى الخبراء به، أنه الألغام الأرضية. أصبح المدنيون البريئون الضحية السهلة لهذا السلاح المرعب في موبتي وحول مالي.
تكشف أرقام الأمم المتحدة، كيف أن المدنيين هم الضحية الأولى لهذا الخطر. خلال الربع الأول من العام الحالي، وقع 39 انفجارا للغم أرضي، تسببوا في مقتل 30 شخصا وإصابة 86 آخرين. خلال التسعة الأشهر الأولى من العام الماضي، لقي أكثر من 200 شخصا حتفهم، وأصيب المئات الآخرين، لنفس السبب، 37% من الانفجارات و65% من الضحايا كانوا في موبتي.
في أبريل الماضي، لقي 6 ركاب حافلة، بينهم 5 نساء حتفهم، ولحقت إصابات بالغة الخطورة بآخرين، حينما مرت الحافلة على لغم في قرية كومبونا القريبة من قرية كريم، في موبتي.
الأطفال والنساء الضحايا الأكبر
تقول الأمم المتحدة إن الألغام الأرضية لا تسبب فقط خسائر في الأرواح، ولكنها تثير الخوف وتقود الأهالي إلى النزوح، كما تكشف عن عمق التعقيدات في الوضع الأمني في مالي. خلال عام 2023، نزح أكثر من 412 ألف شخص من منازلهم وأراضيهم لأسباب عدة، وعلى رأسها الألغام الأرضية.
يعد الضحايا الأوائل لهذه الألغام والمتفجرات الأرضية، هم الأطفال والنساء، إذ دائما ما تلجأ الجماعات المسلحة لوضع هذه الألغام بالقرب من مواقع المياه أو الغابات، حيث يذهب المواطنون للبحث عن خشب التدفئة.
يسقط العديد من الأطفال ضحايا هذه الألغام جراء عدم معرفتهم بطبيعة اللغم أو الشك في موطئ قدمهم، بالإضافة إلى فضولهم، وعمل عدد منهم في البحث عن المعادن لبيعها.
أشلاء على الطريق
خلال السنوات الأخيرة، عشق كريم، ابن الخامسة عشر من العمر، كرة القدم التي يلعبها مع أصدقائه أمام المنزل. أصبح النجم المصري محمد صلاح مصدر إلهام له. هذا العشق للعب كرة القدم ومشاهدتها دفع والده لشراء قميص صلاح مع فريق ليفربول الإنجليزي كهدية له العام الماضي. انتظر الوالد من كريم أن يكون مصدر أمل للأسرة بأن يصبح لاعبا كبيرا.
يحمل كريم شغفا غير عادي بمتابعة مباريات كرة القدم الهامة، دائما ما يرافقه جهاز راديو صغير لمتابعة نتائج المباريات. في قريته لا يوجد تلفاز واحد يمكنه بث هذه المباريات، عليه الذهاب إلى المدينة المجاورة لمشاهدة مباريات مو صلاح.
وعلى عكس والده، فإن حلم المراهق الصغير بأن يصبح لاعب كرة قدم يثير مخاوف والدته. تخشى الأم من فضوله أو رغبته بالجري للتعبير عن فرحته، والتي قد تضع قدمه ذات مرة على … “استغفر الله، لا استطيع قولها، فليحمه الله لي”، تقول والدته.
لكن الخطر جاء لكريم من دون حسبان. خلال وجوده بإحدى الرحلات في سيارة أجرة برفقة آخرين ربيع العام الجاري. لم يعط انتباها لما يدور حوله، كل تركيزه كان على سماع الراديو، بينما يرتدي قميص نجمه المصري. لم يدرك أن هناك لغم خبيث نشط على الطريق، يختبئ تحت الرمال جاهز للانفجار سيسرق منه لحظة السعادة هذه للأبد. انفجر اللغم أسفل السيارة التي طارت في السماء على بعد أمتار قليلة من القرية.
على الفور، هلع أهالي القرية مهرولين باتجاه الموقع، لقد حدثت الكارثة. حدس أم كريم أن ولدها كان في السيارة كان صحيحا هذه المرة. رأت الأشلاء المتطايرة، وتبينت من قدمه. “يا بني. يا الله، لقد قتلوا ولدي”، تصرخ بحسرة، وبجانبها، بدأ أهالي آخرون يصرخون على ضحاياهم. قتل 5 أشخاص، بينهم معلم شاب.
أما كريم، نقل إلى المستشفى في مدينة بانديجارا المجاورة. فقد الشاب ساقه اليمنى وانتهى حلمه بلعب كرة القدم في مهده. هنا بعبع الألغام لا يقتل البشر فقط، لكن يقتل الأحلام والأمل ويثير الذعر في كل خطوة.
جورج تيودور
صحفي من مالي