يظن الكثيرون أن أول طلقة انطلقت عمدا من فوهة بندقية في السودان كانت في التاريخ المشؤوم 15 أبريل 2023. ولكن الواقع يشير إلى تاريخ أبعد من ذلك، وتحديدا 1956، حيث جثمت تلك الطلقة في صدر الشعب السوداني ولم يتسن له التخلص منها طوال السنوات اللاحقة.
قبل أيام، دخلت البلاد في دوامة أخرى أكثر عنفا، أشبه بحرب شوارع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، دفعت بها خطوات هائلة للوراء، وراح ضحيتها الآلاف بين قتلى وجرحى وأضعافهم من اللاجئين، والباقون على حافة التشريد، في الوقت الذي كان الجميع يمني نفسه بمستقبل أفضل ولو قليلا، بعد عقود من المعاناة.
كانت ثورة ديسمبر 2018 فرصة سانحة للسودانيين لمعالجة ذلك الجرح الغائر في جسد الوطن، لكن جميع حلول الأطباء لم تنجح في الحل حتى الآن، وبقي أبناء الشعب رهائن للألم والمعاناة، فكانت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة بالخرطوم في يونيو 2019، طعنة جديدة في قلب وطن يئن بالفعل من الجراح.
ما تبع تلك المجزرة من ظواهر ظل ماثلا في الذاكرة الجمعية للشعب السوداني المكلوم، كان الكثيرون يتابعون ما يحدث بفاه مفتوح من الدهشة الممزوجة بالتعاطف، هل ذلك هو السودان الذي نعرفه؟ نفر من الجند (الباشبوزق) وهم يلهبون ظهر شيخ مسن بالسياط التي تنهال عليه دون رأفة؟
وفي مشهد آخر بعض الصبايا يصحْن خوفا ورعبا وهلعا وهن بين أيادي جنود وطنهم، ويُستدرجن إلى مصير مجهول، منذ تلك اللحظة أدرك الجميع أن تلك حرب تستهدف كيان الدولة ليس بمساحته الجغرافية وخيراته الطبيعية، إنما حتى بأبنائه، الآن بدأ السودانيون يفيقون من غشاوة الأعين وصمم الآذان، ويفطنون أن وطنهم يتداعى، جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور وحتى الجنوب هذا الساعد الذي تم بتره كانت شواهد على هذا الاستهداف، فجثمت جمرة الحرب في جوف كل فرد تنتظر أول ريح تهب فتشعلها.
إن أسوأ ما مرّ على تاريخ السودان من نظام حكم على سوء الأنظمة الأخرى، هو نظام المؤتمر الوطني – الحزب الحاكم المنحل – الذي استغل اللعب على وتر العقيدة للوصول إلى كرسي الحكم، وبالشعارات ذاتها استباح حرمة الوطن وعاث فسادا. فبات ما نحن فيه الآن محصلة طبيعية لمسلك هذا النظام الذي تبذل فلوله كل ما في وسعها للعودة إلى المشهد السياسي ولو على حساب الوطن وأبنائه.
ظاهرة مليشيا “الجنجويد” أو ما يعرف حديثا بقوات الدعم السريع ما هي إلا إحدى مساوئ نظام حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، ولا يمكن فصلها عنه. بعدما أضعف البلاد بسياسة تمكين قبائل على أخرى، ومجموعة على نظيرتها، وفئة على فئة، حتى أنهك جسد البلد ونسيجه المجتمعي، ما حرّض شهية الطامعين، بل أدخل لاعبين من خارج حدود الوطن في المشهد السياسي، الذي بدا كأنما يديره حاطب ليل، كثير التخبط وسيء الاختيار.
في 15 أبريل 2023، حينما خرجت أول طلقة من فوهة بندقية ظل طرفا الصراع ينفيان المسؤولية عن إشعال الحرب في البلاد، في حلقة جديدة من المراوغة وتزييف الحقائق عن الشعب السوداني على مرّ تاريخه السياسي، كان كلا الفريقين جسدا واحدا فماذا إذا كان الدافع إلى انقسام؟ من سينجح منهما في ضم جبل عامر بدارفور إلى سيطرته؟ ويساوم في صفقة قاعدة عسكرية غربية على البحر الأحمر بشرق السودان؟ ومن سيحصل على عمولة التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ ومع من سيقف في أزمة سد النهضة أثيوبيا أم مصر؟ هل فعلا يصح فيهما المثل القائل “إذا اختلف اللصان ظهر المسروق“؟
كل هذا لا يهم فقد استيقظ الجميع على صوت فرقعة الرصاص ودوي الدانات وأزيز الطائرات. وتمضي الساعة تلو الأخرى ليظهر على شاشات القنوات الفضائية والهواتف النقالة الخرطوم ومدن السودان الأخرى بمبان متداعية وجثث ملقاة على الطرقات.
تحولت عاصمة البلاد بمعنى الكلمة إلى حطام تفوح منه روائح الموت من كل الجهات، لا أحد يعلم عدد الضحايا الحقيقي، لكنه أضعاف آلاف في بقاع السودان المختلفة، في الوقت الذي تتحرك الأعين نحو اللاعبين الإقليمين والدوليين، قد تنتهي الحرب الطائل أمدها في ربوع البلاد بانتصار فريق على الآخر، لكن من المؤكد أن الخاسر الوحيد منها هو الوطن وأبناؤه، مهما كان الطرف الرابح.
أمير خالد، ناشط من السودان