خُصوصيّة المأساة عند جيل خاض تجربة التمرّد، هي أنه مَهما كان مصير كلّ واحد مِن أبنائِه، سَواء سار في سكة السلاَمة، طريق التوّبة والإذعان لقوة الأمر الواقِع، وحتى إعلان الكفر بكلّ قِيم التمرّد القديم، أو سار في طريق الندامة، الانهيار، اعْتزال الحياة، المرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبدًا نفس الشخص الذي كان قبل أنْ تبتليه غواية التمرد (لقد مسّه الحُلم مرة)، وستبقى تُلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفّة، لا تكاد تُحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، ومُلهمة ككلّ لحظة مفعمة بالحياة، والفاعلية مؤلمة.
عزلة بسبب صلاح عيسى و”نقد الحركة النسوية”
لم تكن أروى صالح صاحبة انتشار إلا في إطار حركتها الطلابية من جيل الستينات والسبعينات. شاعرة ضلت الطريق إلى السياسة والنضال، كانت فتاة دقيقة الحجم، رقيقة الملامح وسيمة الروح، ذات وجه طفولي وصوت خفيض لكنه مُفعم بالحماس الذي يبدو وكأنه ثقة بالنفس، تملك حيوية عقلية ساهمت ثقافتها المتنوعة وذكاؤها اللماح في تجددها…
كانت أروى قيادية بارزة في حركة الطلبة في السبعينات، وعضواً في المكتب السياسي لحزب العمال الشيوعي الذي كان تقوده نخبة من كبار المثقفين اليساريين، وفي ذلك الوقت تعاقدت مع “كتاب الأهالي” وهي سلسلة شهرية كانت تصدرها جريدة الأهالي الناطقة بلسان حزب التجمع، أسسها ورأس تحريرها “صلاح عيسى” رافعة شعار (ثقافة الهدم والبناء).
كان الكتاب الذي اختارته أروى لكي تترجمه كأول تعاون بينها وبين “كتاب الأهالي” من تأليف الكاتب والمفكر البريطاني الاشتراكي وقائد حزب العمال “توني كليف” بعنوان (النضال الطبقي وتحرر المرأة).
نشأت بسبب الكتاب أزمة بين أروى وصلاح عيسى، إذ كان الكتاب قد أوشك على الصدور بعنوان “نقد الحركة النسوية”، في حين تمسكت أروى بالاسم الأصلي، وفشلت كل محاولاتها لإقناع عيسى بذلك، كانت حجته أن الكتاب طُبع بالفعل وأن العنوان الأصلي يتصف بالعمومية، بينما العنوان الجديد يتصف بالجاذبية للقراءة ويعبر عن المضمون الحقيقي لفصول الكتاب.
قبلت أروى على مضض التسوية الممكنة، بأن وضعت الجملة التالية في صدر الكتاب وعلى غلافه الأخير، “العنوان الأصلي للكتاب “النضال الطبقي وتحرر المرأة.. وتم تغييره بمعرفة هيئة التحرير”.
لم تمر الأزمة بسلام بالنسبة لأروى، بل عظَمت من إحساسها بالاضطهاد، وقدمت لها سبباً جديداً للعزلة التي فرضتها على نفسها، وفرضها عليها ما وصفته “بالحصار الفاشيستي للمرأة العزباء” وهو الوضع الذي غدت هي نفسها عليه.
“المبتسرون”.. جيل زعماء بلا جمهور
بعد تلك الواقعة بسنوات قليلة أصدرت أروى كتابها “المبتسرون.. دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية”، أوردت فيه شهادتها ورؤيتها الشخصية لجيل السبعينات التي كانت تنتمي إليه.. ولجيل من اليساريين كانت تعمل بين صفوفهم.
وصفت أروى ذلك الجيل بأنه (شلة معزولة عن الناس)، صفَقت له مصر كلها، وقبض ثمن الوطنية قبل أن يدفع مقابلها، وصار أبناؤه زعماء بلا جمهور، هو الجيل الذي ضاعت ملامحه عندما تحول زمن عبدالناصر إلى ماض.
قالت عن شهادتها: “إنها نقلة نوعية في الوعي بالتاريخ، أذكرها كما هي لأقدم للأجيال التالية تراثاً يجب أن يجحدوه”.
خاضت أروى بعد إصدار الكتاب معارك مع بعض منافسيها من ذلك الجيل، الذي وصفته بـ “الجالس على المقاهي والعاطل عن العمل، فامتهن الثورية والنضال”.
بداخلي مقبرة جماعية
وكتبت تقول: “كأن قدرتي على الاستمرار بعد الصدمات كانت هي القدرة على تجديد الوهم، كنت دائمًا أعزي نفسي بالظن أنني أخطأت السبيل لمقصدي، وأواصل البحث مُحملة بنفس الأوهام غير منقوصة عن الجمال في بشر غير الذين عرفتهم، وفي النهاية أتطلع داخلي لا أجد سوى مقبرة جماعية”.
كلمات أروى كانت مؤشر لما تفكر فيه، باتت تحمل باعترافها ذنب فشلها، ولم تستطع عبر تجاربها القاسية أن تخفف منه، وعمّقت حالة الاكتئاب المرضي الحاد التي أصيبت بها ولم تستطع أن تنجو..
بعد سنة من كتابها، اعتلت أروى شرفة في الطابق العاشر لشقة لقريبة لها وسط القاهرة، وألقت بنفسها، لتسقط جثة هامدة في السابع من يونيو 1997 وهي في السادسة والأربعين من عمرها.
سيطرت فكرة الانتحار عليها وهي تشاهد جميع أحلامها تتهاوى أمام عينيها: انهارت الشيوعية بسقوط الاتحاد السوفيتي، سقطت الكثير من الأقنعة عن الجيل الذي انتمت إليه وخذلها زيف شعاراته، وزاد شعورها بالخيبة بعد فشل حياتها الشخصية، واعجزها الاكتئاب الذي لم تعطه أي فرصة للعلاج..
فقدت أروى الأمل كما فقدت القدرة على التصالح مع النفس، ليخسر الوسط السياسي والنضالي والثقافي كاتبة ومناضلة مثقفة وثورية من طراز رفيع.